أ - ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه(6) ، عن داود بن كردوس قال : كان رجل من بني تغلب يقال له عباد بن النعمان بن زرعة، كانت عنده المرأة من بني تميم، وكان عبّاد نصرانياً، فأسلمت امرأته ، وأبى أن يُسلم ، ففرَّق عمر بينهما .
ب- ما روى البيهقي في سننه(7) عن جابر بن عبد الله أنه قال لما سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصارنية : «لا يرثن مسلماً ولا يرثهن ، ونساء أهل الكتاب لنا حل ، ونساؤنا عليهم حرام».
ج- ما روى البخاري في صحيحه(8) عن ابن عباس قال : «إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه».
د - وقد وردت آثـار عن التابعين تنص على حرمة بقاء المرأة مع زوجها الكافـر بعد إسلامها، وهو مروي عن عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، والحسن البصري، والحكم بن عتيبة، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، وعدي بن عدي، وطاووس بن كيسان ، قتادة بن دعامة(9) .
المحور الثاني : حكم إخبار المرأة التي أسلمت زوجَها غير المسلم بإسلامها .
لم أقف -فيما اطلعت عليه- على قول لأحد من أهل العلم يبين فيه حكم إخبار المرأة التي أسلمت زوجَها غير المسلم بإسلامها .
والذي تقتضيه النصوص الشرعية وأقوال أهل العلم في المسألة السابقة، أنه يجب على عليها أن تخبر زوجها بإسلامها؛ وذلك لما يأتي :
1) أن القول بحرمة المرأة التي أسلمت على زوجها غير المسلم يترتب عليه أحكام شرعية يجب مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار؛ كحرمة المعاشرة بينهما، وحرمة النظر إليها والنظر إليه، أو إبداء شيء من العورة أمام بعضهما؛ لقوله تعالى : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [الممتحنة: 10]، ومراعاة هذه الأحكام لا يتحقق إلا بمعرفة سببها وهو إسلام الزوجة؛ فوجب إخباره بذلك .
2) أن القول بحرمة المرأة التي أسلمت على زوجها غير المسلم يترتب عليه وجوب العِدَّة على المرأة إن كان مدخولاً بها، وانفساخ عقد الزوجية مباشرة إن كان غير مدخول بها، وتطبيق هذا الحكم لا يتحقق إلا بمعرفة الزوج بإسلام زوجته؛ حتى يتسنى له إدراكها قبل انتهاء العدة إن رغب في إبقائها، أو لزوم مفارقتها إن أصرَّ على كفره .
3) أن إسلام الزوجة وبقاء زوجها على الكفر يقطع التوارث بينهما ؛ لقول النبي : (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)(10). فيجب على الزوجة أن تخبر زوجها بإسلامها حتى لا يدَّعي الحق بميراثها إذا ماتت قبله .
4) أن المرأة المسلمة تخضع في كثير من الأحيان لأحكام القانون المدني، وخصوصاً إذا كانت في ديار الكفر(11)؛ فهي في نظر القانون المدني متزوجة؛ فإذا اعتبرت عقدها الأول مفسوخاً بمجرد إسلامها ، فإن القانون لا يعتد بذلك ؛ فوجب عليها إخبار زوجها لتحقيق التسوية بينهما في هذا الأمر والتراضي على فسخ العقد وإنهائه ، حتى لا تتعرض لإشكالات قانونية؛ كعدم الاعتراف بالزواج الثاني من قبل السلطات المدنية، وضرورة إثبات عدم ارتباطها بزواج آخر في السجلات المدنية، وتسجيل أولادها من زوجها الثاني على اسم الزوج الأول، أو تسجيلهم كأولاد غير شرعيين ، واستحقاق زوجها الأول الميراث بدل الزوج الثاني، إلى غير ذلك(12) .
المحور الثالث : حكم عرض الإسلام على الزوج غير المسلم
إذا قلنا بوجوب إخبار الزوجة التي أسلمت زوجَها غير المسلم بإسلامها ، فهل يجب عرض الإسلام عليه ودعوته إليه؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : ذهب الحنفية إلى أنه يجب عرض الإسلام على الزوج غير المسلم إذا كانا في دار الإسلام ، أما إذا كان أحدهما أو كانا جميعاً في دار الحرب، فلا يجب عرض الإسلام عليه(13).
قال في العناية : «وإذا أسلمت المرأة وزوجها كافر عُرض عليه الإسلام؛ فإن أسلم فهي امرأته ، وإن أبى فَرَّق القاضي بينهما»(14).
ويقول ابن الهمام : «وحاصل المسألة أنه إذا أسلم أحد الزوجين اللذين هما مجوسيان، أو الزوجة منهما مجوسية والزوج كتابي أو الزوجة من الكتابيين، أو الزوجة الكتابية والزوج مجوسي، عرض على المُصِرِّ الإسلامُ إذا كان بالغاً أو صبياً يعقل الأديان... فإن أبى فُرِّق بينهما»(15).
ويقول ابن نجيم : «ومعنى قوله (وإلا فَرَّق بينهما) أنه إن لم يُسلم الآخر بأن أبى عنه، فرَّق بينهما، وأما إذا لم يُسلم ولم يمتنع بأن سكت، فإنه يُكرر العرض عليه؛ لما في الذخيرة: إذا صرَّح بالإباء فالقاضي لا يعرضُ الإسلام عليه مرَّة أخرى، ويُفرِّق بينهما، فإن سكت ولم يقل شيئاً؛ فالقاضي يَعرض عليه الإسلام مرَّة بعد أخرى، حتى تتم الثلاث احتياطاً اهـ»(16).
وقال أيضاً : «وأطلق في إسلام أحدهما في دار الحرب؛ فشمل ما إذا كان الآخر في دار الإسلام أو في دار الحرب، أقام الآخر فيها أو خرج إلى دار الإسلام؛ فحاصله أنه ما لم يجتمعا في دار الإسلام؛ فإنه لا يُعرضُ الإسلام على المصرِّ؛ سواء خرج المسلم أو الآخر؛ لأنه لا يُقضى لغائب ولا على غائب. كذا في المحيط»(17).
وعلل الحنفية القول باشتراط عرض الإسلام على الزوج غير المسلم؛ بأن التفريق بين الزوجين لا بد له من سبب، والإسلام لا يصحُّ أن يكون سبباً للفرقة؛ لأنه طاعة ونعمة وعاصم للأملاك، فلا يجوز أن يكون مبطلاً للنكاح ؛ فكان لا بد من عرض الإسلام على الزوج ؛ فإن أبى كان إباؤه سبباً للفرقة؛ لأنه معصية(18).
وأما عدم اشتراط عرض الإسلام إذا كان أحدهما أو كانا جميعاً في دار الحرب؛ فلأن التفريق يحتاج إلى حكم القاضي ، والقاضي لا ولاية له في دار الحرب.
قال في تبيين الحقائق : «وعندنا نفس الإسلام غير موجب للفرقة ، ولا كفر المصرِّ، ولا اختلاف الدين على ما مرَّ من قبل، ولكن يمكن تقرير السبب في دار الإسلام بالعرض حتى إذا أبى يكون مفوِّتاً للإمساك بالمعروف، وفي دار الحرب لا يتأتى ذلك لانقطاع الولاية، فأُقيم شرط الفرقة وهو مضي ثلاثة قروء مقام السبب؛ كما في حفر البئر إذا وقع فيها إنسان ولم يُمكن إضافة الحكم إلى العلة ، فأضيف إلى الشرط وهو الحفر، فكذا هنا مسَّت الحاجة إلى الفرقة تخليصاً للمسلمة من ذُلِّ الكفر، فأقمنا شرط البينونة في الطلاق الرجعي مقام عُرْضات القاضي وتفريقه عند تعذر اعتبار العلة»(19).
القول الثاني : ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يجوز عرض الإسلام على الزوج غير المسلم إذا أسلمت زوجته، ولا يجب ذلك(20).
وقد صرح بذلك في المدوَّنة فقال : «أرأيت إن أسلمت المرأة وزوجها كافر ، يُعرض على زوجها الإسلام في قول مالك أم لا؟
قال : لا يعرض الإسلام في رأيي، ولكنه إن أسلم وهي في عدتها فهو أحق بها، وإن انقضت عدتها فلا سبيل له عليها»(21).
وقال في تكملة المجموع : «وشرط أهل الكوفة ومن وافقهم أن يُعرض الإسلام في تلك المدة فيمتنع إن كانا معاً في دار الإسلام، وقد روي عن أحمد أن الفرقة بمجرد الإسلام من غير توقف على مضي العدة كسائر أسباب الفرقة من رضاع أو خلع أو طلاق»(22).
ويقول ابن القيم بعد أن ذكر أثر عمر في التفريق بين عبادة بن النعمان التغلبي وامرأته التي أسلمت من بني تميم : «فالنكاح في هذه المدة لا يحكم ببطلانه ولا بلزومه وبقائه من كل وجه ، ولهذا خيَّر أمير المؤمنين المرأة تارة ، وفرّق تارة، وعرض الإسلام على الثاني، فلما أبى فرّق بينهما.
وهذه الآثار عن أمير المؤمنين لا تعارض بينها؛ فإن النكاح بالإسلام يصير جائزاً بعد أن كان لازماً؛ فيجوز للإمام أن يعجل الفرقة، ويجوز له أن يعرض الإسلام على الثاني، ويجوز إبقاؤه إلى انقضاء العدة، ويجوز للمرأة التربص به إلى أن يسلم ولو مكثت سنين. كل هذا جائز لا محذور فيه»(23).
وعلل الجمهور قولهم بالجواز وعدم الوجوب بما يأتي :
1) أن الآثار الواردة عن عمر رضي الله عنه تبين أنه تارة كان يخير المرأة ، وتارة كان يُفرِّق بينها وبين زوجها من غير تخيير ، وتارة يدعو الزوج إلى الإسلام فلا يفرق بينهما بعد الإباء -كما سبق في كلام ابن القيم-؛ فدل ذلك على أن دعوة الآخر إلى الإسلام ليس واجبة(24)؛ إذ لو كانت كذلك للزم أن لا يفرق بينهما في جميع الأحوال إلا بعد عرض الإسلام.
2) أن دعوة الزوج غير المسلم للإسلام فيه شبهة إكراه وتعرُّض لأهل الذمة إن كان الزوج منهم، وموجب عقد الذمة أن لا يتعرض لهم. وهذا فيما إذا كانا في دار الإسلام(25).
المحور الرابع : من الذي يعرض الإسلام على الزوج ؟
ظاهر كلام أئمة الحنفية القائلين باشتراط عرض الإسلام على الزوج غير المسلم؛ أن عرض الإسلام على الزوج يكون من جهة القضاء؛ ذلك أنهم استعملو صيغة المبني للمفعول التي تدل على الإطلاق (عُرضَ، يُعرضُ)؛ إلا أن السياق يدل على أن من له ولاية التفريق هو الذي يعرض عليه الإسلام قبل التفريق.
ففي العناية يقول : «وإذا أسلمت المرأة وزوجها كافر عُرِض عليه الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته ، وإن أبى فرَّق القاضي بينهما»(26).
فالحنفية يرون أن الذي له سلطة التفريق بين الزوجين -إذا كانا في دار الإسلام- هو القاضي، وهو الذي يعرض عليه الإسلام قبل التفريق .
ويؤكد هذا ما جاء في العناية أيضاً -عند الحديث عن إسلام المرأة في دار الحرب، حيث يقول : «والعَرضُ على الإسلام متعذِّر لقصور الولاية»(27)؛ والتعبير هنا بـ (قصور الولاية) إشارة إلى أن الذي يعرض الإسلام عليه هو القاضي ؛ إذ عرض الإسلام على الزوج غير المسلم من جهة الزوجة غير متعذر في الغالب ما لم تفارق محل إقامته في دار الحرب .
وأصرحُ من هذا ما جاء في البحر الرائق حيث يقول : «إن لم يُسلم الآخر بأن أبى عنه فرَّق بينهما، وأما إذا لم يُسلم ولم يمتنع بأن سكت؛ فإنه يُكرِّر العرض عليه ؛ لما في الذخيرة : إذا صرَّح بالإباء فالقاضي لا يعرض الإسلام عليه مرَّة أخرى، ويُفرِّق بينهما، فإن سكت ولم يقل شيئاً؛ فالقاضي يعرض عليه الإسلام مرة بعد أخرى حتى تتم الثلاث احتياطاً. اهـ»(28).
ولا يتعارض قول الجمهور القائلين بعدم اشتراط عرض الإسلام على الزوج غير المسلم عن قول الحنفية؛ إذ هم مع قولهم بالجواز فإنهم يبيِّنون أنه في حالة عرض الإسلام عليه، يكون العرض من صاحب الولاية وهو القاضي أو ولي الأمر ؛ مستدلين على ذلك بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي فرق فيه بين عباد بن النعمان التغلبي وامرأته.
يقول ابن القيم في أحكام أهل الذمة : « فيجوز للإمام أن يعجل الفرقة، ويجوز له أن يعرض الإسلام على الثاني، ويجوز إبقاؤه إلى انقضاء العدة، ويجوز للمرأة التربص به إلى أن يسلم ولو مكثت سنين. كل هذا جائز لا محذور فيه »(29).
ويرى الشيخ فيصل مولوي أن دعوة الزوج إلى الإسلام واجبة على المرأة المسلمة تجاه زوجها غير المسلم؛ فيقول : «ثم يجب عليها دعوة زوجها للإسلام، هذا هو واجب كل مسلم بشكل عام، وخاصة تجاه أقربائه وبالأخص الزوجة، ومن المعلوم أن جميع النساء اللائي أسلمن أيام رسول الله كنَّ يدعون أزواجهن للإسلام، وقصة إسلام صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل(30) بعد إسلام زوجتيهما معروفة»(31).
هذا ما تيسر جمعه في هذه المسألة ، والله تعالى أجل وأعلم ، وهو ولي التوفيق .
وحدة البحث العلمي
بإدارة الإفتاء
ــــــــــــــــــــــــــــ