ووجه هذا الإشكال هو: أن هذه الآيات الكريمات من سورة العلق، وسورة العلق أول ما نزل من القرآن على رسول الله r كما هو قول جمهور المفسرين؛ يقول الإمام القرطبي رحمه الله: «هذه السورة أول ما نزل من القرآن في قول معظم المفسرين، نزل بها جبريل على النبي r وهو قائم على حراء، فعلَّمه خمس آيات من هذه السورة». [تفسير القرطبي (20/117)] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فإن أول ما أنزل من القرآن: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ( عند جماهير العلماء . وقد قيل: )يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ( روى ذلك عن جابر.
والأول أصح؛ فإن ما في حديث عائشة الذي في الصحيحين يبين أن أول ما نزل: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ( نزلت عليه وهو في غار حراء، وأن (المدّثر) نزلت بعدُ». [مجموع الفتاوى (16/254)].
فهي إذاً أول ما نزل من القرآن، وقد جاء فيها ذكر الصلاة، والمعروف بل لا خلاف فيه بين العلماء أن الصلوات الخمس إنما فرضت ليلة الإسراء؛ يقول ابن رجب رحمه الله: «وقد أجمع العلماء على أن الصلوات الخمس إنما فرضت ليلة الإسراء». [فتح الباري لابن رجب (2/104)].
فهل كانت هناك صلاة غير الصلوات الخمس قبل الإسراء؟ أم أن هذه الآيات التي فيها ذكر الصلاة نزلت بعد الإسراء وفرض الصلوات الخمس؟
وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا الإشكال أشار إليه العلامة ابن عاشور رحمه الله في تفسيره فقال: «واختلفوا في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب الخمس الآيات الماضية، وجعلوا مما يناكده ذِكْر الصلاة فيها، وفيما رُوي في سبب نزولها من قول أبي جهل؛ بناءً على أن الصلاة فُرضت ليلة الإِسراء، وكانَ الإِسراء بعد البعثة بسنين». [التحرير والتنوير (16/405)].
ولحلِّ هذا الإشكال، والإجابة عليه نذكر أقوال أهل العلم ونصوصهم في ذلك، لكن نبدأ أولاً بذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمات؛ فنقول وبالله التوفيق:
أولاً : سبب نزول هذه الآيات:
روى الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه -واللفظ له- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَ: فَقِيلَ نَعَمْ. فَقَالَ: وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِى التُّرَابِ. قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ الله r وَهُوَ يُصَلِّى زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ. قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِى بِيَدَيْهِ. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ مَا لَكَ؟! فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِى وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً. فَقَالَ رَسُولُ الله r: لَوْ دَنَا مِنِّى لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا. قَالَ: فَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ -لاَ نَدْرِى فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ شَيْءٌ بَلَغَهُ- )كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى( -يَعْنِى أَبَا جَهْلٍ- )أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرَى كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ(»، زَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِى حَدِيثِهِ قَالَ: «وَأَمَرَهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ».
قال صاحب البحر المحيط : «قال ابن عطية: ولم يختلف أحد من المفسرين أن الناهي أبوجهل، وأن العبد المصلي هو محمد رسول الله r» . [البحر المحيط (8/369)] .
ثانياً : أقوال أهل العلم وأجوبتهم على هذا الإشكال :
1- صاحب التحرير والتنوير( 16/405 ) :
قال رحمه الله : «واختلفوا في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب الخمس الآيات الماضية وجعلوا مما يناكده ذِكْر الصلاة فيها، وفيما رُوي في سبب نزولها من قول أبي جهل؛ بناءً على أن الصلاة فُرضت ليلة الإِسراء، وكانَ الإِسراء بعد البعثة بسنين؛ فقال بعضهم: إنها نزلت بعد الآيات الخمس الأولى من هذه السورة، ونزل بينهن قرآن آخر ثم نزلت هذه الآيات، فأمر رسول الله r بإلحاقها. وقال بعض آخر: ليست هذه السورة أوَّل ما أنزل من القرآن.
وأنا –الكلام لابن عاشور- لا أرى مناكدة تُفضي إلى هذه الحيْرة، والذي يُستخلص من مختلف الروايات في بدء الوحي وما عَقبه من الحوادث: أنَّ الوحي فتَر بعد نزول الآيات الخمس الأوائل من هذه السورة، وتلك الفَتْرة الأولى التي ذكرناها في أول سورة الضحى، وهناك فترة للوحي هذه ذكرها ابن إسحاق بعد أن ذكر ابتداء نزول القرآن، وذلك يُؤْذن بأنها حصلت عقب نزول الآيات الخمس الأول، ولكن أقوالهم اختلفت في مدة الفترة؛ قال السهيلي: كانت المدة سنتين، وفيه بُعْد. وليس تحديد مدتها بالأمر المهمّ، ولكن الذي يَهُمُّ هو أنَّا نُوقن بأن النبي r كان في مدة فترة الوحي يرى جبريل ويتلقى منه وحياً ليس من القرآن. وقال السهيلي في «الروض الأنُف» : ذَكَر الحربي أن الصلاة قبل الإِسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس (أي العصر)، وصلاة قبل طلوعها (أي الصبح). وقال يحيى بن سلام مثله، وقال: كان الإِسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام. اهـ .
فالوجه –الكلام لابن عاشور- أن تكون الصلاة التي كان يصليها النبي r صلاة غير الصلوات الخمس، بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود؛ لقول الله تعالى: )واسجد واقترب( يؤديها في المسجد الحرام، أو غيره بمرأى من المشركين، فعَظُم ذلك على أبي جهل ونهاه عنها.
فالوجه أن تكون هذه الآيات إلى بقية السورة قد نزلت بعد فترة قصيرة من نزول أول السورة حَدَثت فيها صلاة رسول الله r، وفشا فيها خبر بدء الوحي ونزول القرآن؛ جرياً على أن الأصل في الآيات المتعاقبة في القراءة أن تكون قد تعاقبت في النزول إلا ما ثبت تأخّره بدليل بيِّن، وجرياً على الصحيح الذي لا ينبغي الالتفات إلى خلافه من أن هذه السورة هي أول سورة نزلت».
2- القاسمي في محاسن التأويل (17/6217) :
قال رحمه الله: «قال الإمام : ذِكْرُ الصلاة في السورة لا يدل على أن بقيتها نزل بعد فرض الصلاة ، فقد كان للنبي r وأصحابه صلاة قبل أن تُفرض الصلوات الخمس المعروفة» .
3- ابن رجب في فتح الباري (2/103):
قال رحمه الله: «والأحاديث الدالة على أن النبي r كان يصلي بمكة قبل الإسراء كثيرة، لكنْ قد قيل: إنه كان قد فُرض عليه ركعتان في أول النهار، وركعتان في آخره فقط، ثم افْتُرضت عليه الصلوات الخمس ليلة الإسراء. قاله مقاتل وغيره» .
4- ابن حجر في فتح الباري (2/45):
قال رحمه الله : «ذَهَبَ جَمَاعَة إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْل الإِسْرَاء صَلاة مَفْرُوضَة إِلاَّ مَا كَانَ وَقَعَ الأَمْر بِهِ مِنْ صَلاة اللَّيْل مِنْ غَيْر تَحْدِيد، وَذَهَبَ الْحَرْبِيُّ إِلَى أَنَّ الصَّلاة كَانَتْ مَفْرُوضَة رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيّ عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ صَلاة اللَّيْل كَانَتْ مَفْرُوضَة ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى )فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ(، فَصَارَ الْفَرْض قِيَام بَعْض اللَّيْل، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْس» .
5- البدر العيني في شرح سنن أبي داود (5/54):
قال رحمه الله : «قال أبو إسحاق الحربي: إنَّ الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس، وصلاة قبل طلوعها؛ ويشهد له قوله سبحانه: )وسبِّحْ بحَمْد ربكَ بِالعَشِي وَالإبكَار(. وقال يحيى بن سلام مثله، وقد كانَ الإسرَاء وفرض الصلواَت الخمس قبل الهجرة بعام» .
6- ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق (1/257) :
قال رحمه الله: «وَكَانَتْ الصَّلاةُ قبل الْإِسْرَاءِ صَلاتَيْنِ؛ صَلاةٌ قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَلاةٌ قبل غُرُوبِهَا؛ قال تَعَالَى: )وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ(».
7- الماوردي في تفسيره المسمَّى بالنكت والعيون (6/307):
قال رحمه الله : «وكانت الصلاة التي قصد فيها أبو جهل رسول الله صلاة الظهر. وحكى جعفر بن محمد أنَّ أول صلاة جماعة جمعت في الإسلام يوشك أن تكون التي أنكرها أبو جهل، صلَّاها رسول الله r ومعه عليّ رضي الله عنه» .
8- صاحب البحر المحيط (8/369):
قال رحمه الله : «وقال التبريزي: المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر. قيل: هي أول جماعة أقيمت في الإسلام، كان معه أبو بكر وعليّ وجماعة من السابقين» .
وبعد نقل هذه النصوص والنقول لأئمتنا وعلمائنا رحمهم الله نخلص إلى ما يلي:
1- أن كثيراً من أهل العلم ذهبوا إلى أن هذه الآيات الكريمات -والتي فيها ذِكْر الصلاة- نزلت قبل الإسراء، وأنه كانت هناك صلاة قبل أن تُفرض الصلوات الخمس في رحلة الإسراء، لكنهم اختلفوا في هذه الصلاة: فبعضهم يرى أنها كانت ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها. وبعضهم يرى أنها صلاة تختلف في كيفيتها عن الصلوات الخمس، وأنها كانت عبارة عن هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود. وبعضهم يرى أنها كانت قيام الليل .
2- بينما يرى بعض أهل العلم أن هذه الآيات نزلت بعد رحلة الإسراء وفَرْض الصلوات الخمس، وأن الصلاة التي قصد فيها أبو جهل رسول الله r كانت صلاة الظهر؛ كما أشار إلى ذلك الإمام الماوردي وغيره.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله وسلَّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .