إدارة الإفتاء

تحصيل البركات في شهر الخيرات


تحصيل البركات في شهر الخيرات*

 

الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه, أما بعد:

فقد أخرج أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: «أتاكم رمضانُ, شهرٌ مباركٌ, فرض الله عليكم صيامه, تفتح فيه أبواب السماء, وتغلق فيه أبواب الجحيم, وتغلُّ فيه مردة الشياطين, لله فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر, من حُرم خيرها فقد حُرم» [صحيح الترغيب والترهيب (999)] .

 تأملت هذا الحديث العظيم ملياً, فظهر لي ما كان قد خفي قبلُ جلياً, وكأن نبيَّنا صلوات الله وسلامه عليه يبشرنا بقدوم هذا الضيف الكريم إلينا, ويذكرنا بعظيم نعمة الله علينا, كما بشر أصحابه مِن قبلُ عند نطقه بهذا الخبر, ونظمه لهذه الدرر, وكأنه صلى الله عليه وسلم أجمل كل ما في هذا الشهر من خير, في كلمة واحدة لا غير, كيف لا وهو القائل: «أُعطيتُ جوامعَ الكَلِم»؟ [رواه مسلم]

هذه الكلمة هي قوله: (شهرٌ مبارك). نعم, إن رمضان شهر مبارك, قد بارك الله فيه من بين سائر الشهور, فهو خيرها وأفضلها, وأعظمها وأحسنها,؛ فهو شهر اجتمع فيه من العبادات والقربات ما تفرَّق في غيره, فطوبى لعبد عرفَ قدرَ هذا الشهر, وعلم ما فيه من البركة والخير, فاغتنم أوقاته من ليل ونهار, في البرِّ والهدى وطاعة الجبار.

والبركة: هي الزيادة والنماء والكثرة، وفي لسان العرب: «معنى البركة: الكثرة في كل خير... والمبارك: ما يأتي من قِبَله الخيرُ الكثيرُ» [1/398].

 

قال الملا علي القاري -رحمه الله-: «شهر مبارك: أي كثر خيره الحسِّي والمعنوي كما هو مشاهد فيه, ويحتمل أن يكون دعاء؛ أي جعله الله مباركاً علينا وعليكم, وهو أصل في التهنئة المتعارفة في أول الشهور بالمباركة, ويؤيد الأول قوله: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان, إذ فيه إيماء إلى أن رمضان من أصله مبارك, فلا يحتاج إلى الدعاء, فإنه تحصيل الحاصل, لكن قد يقال: لا مانع من قبول زيادة البركة». [مرقاة المفاتيح 6/255]. 
 

جاء شهرُ الصيامِ بالبركاتِ *** فأكرِمْ به مِنْ زائرٍ هُوَ آتِ

 

ومن تأمل وجد أن أركان الإسلام كاملةً موجودةٌ في شهر رمضان, إضافة إلى غيرها من العبادات الكثيرة التي يحصِّلها العبد في هذا الشهر, فمن البركات التي نعدُّ منها ولا نعدِّدُها في هذا الشهر الكريم وما أكثرَها!ـ:

 

الصيـام وما يتعلق به:

1) الصيام ركن من أركان الإسلام الخمسة, والتي هي عماد دين المرء, وعلامة إيمانه بالله جل وعلا؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله, وإقامِ الصلاة, وإيتاءِ الزكاة, والحج, وصوم رمضان» [متفق عليه] .

2) اجتماع المسلمين على صيامه, سواء كانوا جميع المسلمين في جميع الأقطار, أم المسلمين في قطر واحد, لقوله صلى الله عليه وسلم -مخاطباً جماعة المسلمين, ناهياً عن الاختلاف-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» [متفق عليه]. وهذا المعنى موجود أيضاً في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( [البقرة:183]؛ فهو خطاب للجماعة لا لأفراد, ولا شك أن البركة في الجماعة, ويد الله على الجماعة.

3) والصيام أجره عظيم جداً, فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: «من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً» [متفق عليه].

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض» [رواه الترمذي (1624) وصححه الألباني].

4) والصيام وصية رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لهذا الصحابي الجليل؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! مُرني بعمل. قال: «عليك بالصوم؛ فإنه لا عِدل له». قلت يا رسول الله! مُرني بعمل. قال: «عليك بالصوم؛ فإنه لا عِدل له».

وفي رواية أخرى قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت: يا رسول الله! مرني بأمر ينفعني الله به. قال: «عليك بالصيام فإنه لا مثل له».

وفي رواية أخرى قال: قلت يا رسول الله! دلني على عمل أدخل به الجنة. قال: «عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له». قال: فكان أبو أمامة لا يُرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف. [صحيح الترغيب والترهيب (986)].

5) والصيام هو العمل الوحيد الذي جعل الله عز وجل أجره مفتوحاً غير مقيد بتضعيف محدد, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عزَّ وجلَّ: كل عمل بن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» [متفق عليه] .

وفي رواية لمسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف؛ الحسنة بعشر أمثالها, إلى سبعمائة ضعف, قال الله تعالى: إلا الصوم؛ فإنه لي, وأنا أجزي به».

قال أهل العلم: معنى ذلك أن كلَّ الأعمال الصالحة تضاعف أجورها الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإن أجره أعظم من ذلك لأن الصيام صبر, وقد وعد الله الصابرين بقوله: )إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ( [الزمر:10] .

6) ومن مات صائماً فهو دليل على حسن خاتمته، قال النبي صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «من ختم له بصيام يوم دخل الجنة» [صحيح الجامع (6224)].

7) ولعظيم فضل الصيام جعل الله عز وجل في الجنة باباً خاصاً للصائمين, عن سهل بن سعد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة باباً يقالُ له: الريَّانُ؛ يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم. يقال: أين الصائمونَ؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» [متفق عليه] .

8) وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم من صام هذا الشهر العظيم مؤمناً بفرضيته, مخلصاً في صومه, بمغفرة الذنوب, ورضا علام الغيوب بقوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [متفق عليه] .

وأي بركة أعظم من أن تغفر للعبد ذنوبه؟

9) ومن صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام العام كاملاً, لأن الشهر بعشرة أشهر, والستة الأيام بشهرين فهذه اثنا عشر شهراً على التمام, وهي عام كامل, فما أعظمها من بركة! عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر» [رواه مسلم].

10) ومن الأعمال المباركة المتعلقة بالصيام في هذا الشهر الكريم أكلة (السحور), وهي الأكلة المباركة, والغداء المبارك, التي حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم أمته في غير ما حديث؛ فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السحور بركة» [متفق عليه] .

وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البركة في ثلاث: الجماعات، والثريد، والسحور» [سلسلة الأحاديث الصحيحة (1045)].

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السحور كله بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين» [صحيح الترغيب والترهيب (1070)].

 

الصــلاة:

1) اجتماع المسلمين على القيام في صلاة التراويح, وهي من السنن التي أحياها الفاروق عمر رضي الله عنه في خلافته, بعد أن كان المسلمون يصلونها فرادى, فعن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد, فإذا الناس أوزاع متفرقون؛ يصلي الرجل لنفسه, ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط, فقال: «والله إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل». ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب, قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم, فقال عمر: «نعمت البدعة هذه, والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون». يريد آخر الليل, وكان الناس يقومون أوله. [صلاة التراويح ص49 للألباني].

ولا شك أن هذا أمر يمتاز به هذا الشهر الكريم عن سائر الشهور؛ إذ لا يشرع قيام الليل في غيره من الشهور على هذه الشاكلة. فالبركة كل البركة في اجتماع المسلمين في هذه الصلاة العظيمة.

2) وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قيامه ووعد من فعل ذلك مخلصاً بمغفرة الذنوب بقوله: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [متفق عليه].

ومن البركات في هذا الشهر الكريم ما يشاهَد من إقبال جماهير المسلمين على بيوت الله, وخاصةً في صلاتي العشاء والفجر, وصلاة التراويح أيضاً, الأمر الذي يثلج صدور المؤمنين, ويبشر بوجود وازع إيماني عند كثير من المسلمين يدفعهم إلى عبادة الله جل وعلا وإن كان غير دائم عند بعضهم, ويدل على إيمانهم بسنية هذه العبادة العظيمة, ألا وهي صلاة القيام جماعة.

3) ولا شك أن من أعظم بركات هذا الشهر وجود ليلة فيه هي خير من ألف شهر, وهي ليلة القدر, والمقصود هنا: أن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر سواها ليس فيها ليلة القدر, وقد قال النبي صلى اللهُ عليهِ وسلم حاثاً أمته على طلبها والتماسها والقيام فيها: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [متفق عليه].

وقال كما في الحديث الأول: «لله في رمضان ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر, من حرم خيرها فقد حرم».

 

الزكاة والصدقات:

وفي شهرنا المبارك تكثر الصدقات, وتُخرَج الزكوات, فرضها ونفلها, فيخرج الناس زكاة فطرهم في آخر الشهر من غالب قوت بلدهم. عن ابن عباس قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهر الصيام من اللغو والرفث وطعمة للمساكين» [رواه أبو داود (1609) وصححه الألباني].

ويكثر الجود والإنفاق من أهل الخير في هذا الشهر, اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد جاء عن ابن عباس قال: «كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل صلى الله عليه وسلم وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان؛ يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» [متفق عليه] .

وفي هذا الشهر الكريم أيضاً يخرج غالب الناس زكاة أموالهم, الأمر الذي يكون فيه سعة على الفقراء والمحتاجين, وتقوى الرابطة بين المسلمين, بين غنيهم وفقيرهم, والزكاة من الأحكام العظيمة التي جاء بها الإسلام, لتخفيف الفوارق بين طبقات الناس, وليستشعر كل مسلم أن هذا الدين قد ربطه بإخوانه المسلمين أعظم رابط, فلا يفرط أحد منهم بالآخر.

وقد قال عثمان رضي الله عنه بمحضر من الصحابة: «هذا شهر زكاتكم؛ فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم» [إرواء الغليل: رقم789].

 

العمــرة:

ومن البركات العظيمة في هذا الشهر المبارك أن العمرة فيه تعدل حجة, لقوله صلى اللهُ عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة معي» [متفق عليه].

قال ابن عبد البر رحمه الله: «شهر رمضان مما يضاعف فيه عمل البر, وذلك دليل على عظيم فضله، وفيه أن الحج أفضل من العمرة وذلك والله أعلم لما فيه من زيادة المشقة في العمل والإنفاق» [التمهيد (22/55)].

وقال المناوي رحمه الله ـ: «أي تقابلها وتماثلها في الثواب لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت ذكره المظهر.

قال الطيبي: وهذا من باب المبالغة وإلحاق الناقص بالكامل ترغيباً وبعثاً عليه، وإلا كيف يعدل ثواب العمرة ثواب الحج» [فيض القدير (4/475)].

 

الدعــاء:

ومن بركات هذا الشهر أيضاً أن الدعاء فيه مستجاب, لقرب العبد فيه من ربه جل وعلا بسبب الصيام, فيكون ذلك أدعى لقبول دعائه, إذ إنه كلما كان العبد أقربَ من الله كان دعاؤه حريًّا بالإِجابة والقبول, كما لو كان في السجود, أو في وقت السحر, أو مظلوماً كسيراً.

قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم, ودعوة المظلوم, ودعوة المسافر» [صحيح الجامع (3030)].

وقال صلى اللهُ عليه وسلم : «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده, ودعوة المسافر, ودعوة المظلوم» [صحيح الجامع (3031)].

وهذه الدعوة المستجابة التي لا ترد هي التي تكون عند الإفطار, عندما يفطر الصائم مع غروب الشمس.

قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم : «ثلاثة لا ترد دعوتهم الأمام العادل, والصائم حين يفطر, ودعوة المظلوم» [رواه الترمذي (2526) وصححه الألباني].

 

قـراءة القـرآن:

رمضان هو الشهر الذي أُنزل فيه القرآن؛ قال تعالى: )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ( [البقرة:185] .

وقد قرن النبي صلى اللهُ عليه وسلم بين الصيام والقيام في شفاعتهما للعبد يوم القيامة لعظيم صلة هاتين العبادتين ببعضهما البعض, وهو أمر أدركه السلف كما يبدو؛ فأقبلوا على القرآن في شهر رمضان. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة, يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة, فشفعني فيه, ويقول القرآن: منعته النوم بالليل, فشفعني فيه, قال فيشفَّعان» [صحيح الترغيب والترهيب: رقم (984)].

فهو الشهر الذي يقبل فيه العباد على هذا الكتاب العظيم؛ تلاوةً وتدبراً وعملاً, سواءٌ كان ذلك في صلاة القيام, أم قراءةً من المصاحف كما جاء عن السلف.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال, وبعضهم في كل سبع, منهم قتادة, وبعضهم في كل عشرة, منهم أبو رجاء العطاردي, وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها, كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان, وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة, وفي بقية الشهر في ثلاث, وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً, وفي رمضان في كل ثلاث, وفي العشر الأواخر كل ليلة, وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة, وعن أبي حنيفة نحوه, وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان, وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام. قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم, وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. قال عبدالرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن. وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان, فإذا طلعت الشمس نامت. وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه» [لطائف المعارف ص183].

فهذا حال سلفنا مع القرآن في رمضان كما تَرى, فما هو حالنا يا تُرى!

 

حُسـن الخلُـق:

لا شك أن الصيام مدرسة لتهذيب الأخلاق وتزكية النفوس, فيجد العبد نفسه مقبلاً على طاعة الله بكليته, وبكافة جوارحه, بطنه صائم عن الطعام والشراب, وفرجه صائم عن الشهوات, ولسانه صائم عن الكذب والغيبة والنميمة وقول الزور, وعيناه صائمتان عن النظر إلى المحرمات, وأذناه صائمتان عن سماع ما يغضب الله من اللغو والكلام المحرم والغناء, ويداه ورجلاه صائمات عن البطش والمشي في ما لا يرضي الله, فهو صائم ظاهراً وباطناً, قد وجد أثر صيامه على قلبه ولسانه وبدنه وجوارحه, فما أعظمها من بركة لهذا الشهر, يجد العبد أثرها على نفسه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنَّةٌ, فإذا كان يوم صوم أحدكم, فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم, إني صائم» [متفق عليه].

 

العتق من النار:

ومن بركات هذا الشهر الكريم, عتق رقاب العباد من النار المحرقة, التي وقودها الناس والحجارة, والتي أعدت للكافرين والمنافقين والعصاة -أعاذنا الله منها-.

عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عند كل فطر عتقاء, وذلك في كل ليلة» [رواه ابن ماجه (1643)].

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة يعني في رمضان وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة» [صحيح الترغيب والترهيب (1002)].

فأي بركة أعظم من أن ينجو العبد من النار, ويدخل الجنة مع الأبرار؟!

 

إطعـام الطعـام:

ومن بركات هذا الشهر الكريم, أن من فطَّر صائماً كان له مثل أجره, وهذا فيه حثٌّ على عبادة إطعام الطعام, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أطعموا الطعام وأفشوا السلام تورثوا الجنان» [سلسلة الأحاديث الصحيحة (1466)]، وفيه حث أيضاً على خلق الكرم وهو خلق عربي أصيل أمر به الإسلام وحض عليه, لأنه يقوي الوشائج بين المسلمين, ويدل ظاهراً على محبتهم الباطنة لبعضهم بعضاً.

عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فطَّر صائماً؛ كان له مثل أجره, غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء» [صحيح الترغيب والترهيب (1078)].

 

تصفيد الشياطين:

ومن بركات هذا الشهر الكريم أن الشياطين تُكبَّل وتُحجَز عن العباد؛ ليكثر الخير ويقل الشر, وما أعظمها من نعمة لمن عقلها!

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدتِ الشياطينُ ومَرَدة الجن، وغُلِّقتْ أبوابُ النَّارِ فلم يفتح منها بابٌ، وفُتِّحتْ أبواب الجنة فلم يغلق منها بابٌ، ومنادٍ ينادي: يا باغيَ الخيرِ أقبِل، ويا باغي الشر أقْصِرْ ولله عتقاء من النَّار، وذلك كلَّ ليلة» [صحيح الترغيب والترهيب (998)].

 

مغفـرة الذنـوب:

ومن بركات هذا الشهر الكريم أن ذنوب العبد تغفر ما بينه وبين رمضان الذي يليه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: «الصلوات الخمس, والجمعة إلى الجمعة, ورمضان إلى رمضان, مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» [رواه مسلم].

 

اللهم اغفر لنا ذنوبنا, واستر علينا عيوبنا, واجعل خير أعمالنا خواتيمها, وخير أيامنا يوم نلقاك.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

 

*  *  * 

* مقالة بقلم الشيخ/ علي بن محمد أبو هنية (بتصرف)

وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - دولة الكويت - إدارة الإفتاء