حجُّ البيتِ،،، منافعُ وفوائدُ
الحمد لله الّذي فرض على عباده حجّ بيته الحرام، وجعل لهم فيه المنافع العظام والفوائد الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلّام، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله؛ خير من صلّى وصام، وطاف بالبيت، ووقف بالمشعر الحرام؛ صلّى الله عليه وسلّم، وعلى آله وصحبه البررة الكرام.
أمّا بعد: فإنّ الله تعالى تابع على عباده مواسم الخيرات؛ ليتزوّدوا منها بالباقيات الصّالحات، ويتقرّبوا إليه فيها بأداء الفرائض والواجبات؛ فما إن انقضى الشّهر الفضيل؛ الّذي أدّى فيه العباد فريضة الصّيام، حتّى دخلت أشهر المناسك الّتي يؤدّون فيها فريضة الحجّ إلى البيت الحرام؛ الّذي افترضه الله سبحانه على المستطيع من الأنام، وأخبر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أنّه أحد أركان الإسلام؛ فقال جلّ وعلا: ﴿وَلِله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران:93]، وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم -كما في الصّحيحين-: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ).
وقد أجمع العلماء على وجوب الحجّ على كلِّ مسلم بالغ مستطيع حرّ؛ مرّة واحدة في العمر، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ وجوبه على الفور؛ لقوله عليه الصّلاة والسّلام -فيما رواه الإمام أبو داود -: (مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ)؛ وذلك لأنّ الإنسان لا يدري ما يعرض له؛ فقد يصيبه مرض يقعده، أو فقر يدقعه، أو حاجة تشغله؛ ولهذا قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (استكثروا من الطّواف بهذا البيت؛ قبل أن يحال بينكم وبينه) .
فلا يجوز لك يا عبد الله! التّسويف والتّأخير لهذه الشّعيرة الكريمة، ولا التكاسل والتأجيل لهذه العبادة المهمّة، وكيف تؤخّرها وفيها منافع عظيمة، وفوائد جسيمة؛ حثّ الله عزّ وجلّ على اغتنامها، ورغّب في المسارعة إليها وابتدارها؛ حيث قال جلّ وعلا: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحجّ:27-28].
وإنّ من أعظم تلك المنافع والعوائد، وأجلّ ما في الموسم من الفوائد والروافد: التّعرّضَ لرحمة الله سبحانه ومغفرته، وفضلِه وبركتِه؛ لما يمنّ به على حجّاج بيته؛ من تكفيرٍ للسيّئاتِ، ومغفرةٍ للخطيئات، ومضاعفةٍ للحسناتِ، وهدايةٍ إلى صراط الله المستقيم، وثباتٍ بعد الحجِّ على دينه القويم؛ فقد قال تعالى عن بيته الكريم: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:96]. وثبت في (صحيح مسلم) عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنّه قال: (لَمَّا جَعَلَ اللهُ الإِسْلامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ. قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ). وأخرج التّرمذيّ-وصحّحه- والنّسائي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ ، وَالذَّهَبِ ، وَالفِضَّةِ). وقال صلّى الله عليه وسلّم -كما في الصّحيحين-: (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ ، فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "ظاهرُه غفرانُ الصّغائرِ والكبائرِ والتّبعاتِ".
ومن الفوائد: حصولُ اجتماع المؤمنين، وظهورُ قوّةِ الإسلام ووحدةِ المسلمين، وسقوطُ كلِّ الشّعارات الجاهليّة، والفوارق البشريّة؛ فلا يبقى إلا شعار الدّين، والاجتماع على شريعة ربِّ العالمين، وتبطل كلّ الاعتقادات الشّركيّة؛ فلا تبقى إلا العقيدة الحنيفيّة؛ ملّةُ أبينا إبراهيمَ -عليه السّلام- ؛ إمامِ الأمّةِ الإسلاميّة؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ﴾ [الحجّ:26].
فالحجّ مدرسة عمليّة لتوحيد الله سبحانه وإفراده بالعبادة، والبراءة من الشّرك وأهله وتصحيح العقيدة؛ كما قال عزّ شأنه: ﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التّوبة:2]. ولهذا شرع للحاجّ رفع صوته بالتلبية؛ تأكيداً لإفراده الله تعالى بالعبودية؛ فيقول: "لبّيك اللّهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبّيك؛ إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك". ومن هنا قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه في حديث حجّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم -كما في (صحيح مسلم)-: (فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ).
ومنها: أنّ الحجّ مدرسة لتهذيب الأخلاق؛ بالتزام الأفعال والأقوال الطّيّبة الحميدة، والبعد عن الأقوال والأفعال الكريهة الذّميمة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة:197].
كما يعتبر الحجّ دورة تدريبيّة لتربية النّفس على تحمّل المشاقّ؛ بالسّفر وتنقلاته، وتربيتها على البذل والإنفاق؛ لأنّ الحجّ يجمع بين العبادة البدنيّة والعبادة الماليّة، وهذا معنى قول أبي الشّعثاء: "نظرت في أعمال البرّ؛ فإذا الصّلاة تجهد البدن، والصّوم كذلك، والصّدقة تجهد المال، والحجّ يجهدهما".
ومنها: ما يحصل للعبد عند أداء المناسك، والوقوف بتلك المشاعر؛ من إقبال على الطّاعات، ونشاط في التّعبّد بأنواع القربات؛ من صلاة وطواف وصدقات، وذكر وتلاوة للقرآن، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وغير ذلك من الأعمال الصّالحات؛ الّتي يرجى بها مضاعفة الأجور ورفع الدّرجات؛ فقد صحّ في (سنن ابن ماجه) وغيره: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (وصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِئَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ). وإذا كان هذا في شأن الصّلاة؛ فيُرجى أن تكون الأعمالُ الصّالحةُ كلُّها مضاعفةً كذلك -بفضل الكريم المنّان-؛ لشرف المكان، وفضل الزّمان.
ومنها: أنّ وقوف ذاك الجمع العظيم يوم عرفة في صعيد واحد، ووقت واحد، وزِيٍّ واحد؛ مهلّلين مكبّرين، راغبين راهبين، لا فرق بين غني وفقير، وجليل وحقير؛ فيه تذكيرٌ بالوقوف بين يدي الملك الكبير يوم الحشر والمصير؛ حيث يُجمع الأوّلون والآخرون، وعلى أعمالهم يحاسبون، وبها يجازون؛ وقد ختم الله سبحانه آيات الحجّ من سورة البقرة بقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة:203].
ومنها: أنّ من خرج حاجًّا فهو في حفظ الله وضمانه، ورعايته وأمانه؛ حتى يرجع إلى أهله ووطنه؛ لما رواه أبو نعيم في (حليته) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (ثَلاَثَةٌ فِي ضَمَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: رَجُلٌ خَرَجَ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَرَجُلٌ خَرَجَ حَاجًّا).
ومنها: أنّ الله سبحانه يتفضّل على حجّاج بيته بإجابة دعائهم، وتحقيق سؤلهم ومطلبهم؛ لأنّهم وفد الله الّذين أجابوه، وأولياؤه الذين أطاعوه؛ ففي (سنن ابن ماجه) و(صحيح ابن حبّان) عن سيّد ولد عدنان صلّى الله عليه وسلّم قال: (الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ، وَفْدُ اللهِ، دَعَاهُمْ، فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ) ، وقد أخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ الله سبحانه يباهي بأهل الموقف في عرفات أهل السّماء، ويغفر لمن شاء منهم، ويجعله من العتقاء؛ ففي (صحيح مسلم) عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ).
وأخيراً: فإنّ الحجّ سببٌ في دخول الجنان، والنّجاة من النِّيران، ولكن بشرط أن يكون صاحبه من المتّقين، وفي عبادته من المحسنين البارّين؛ لما ثبت في الصّحيحين عن قائد الغرّ المحجّلين صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ).
والحجُّ المبرور هو الّذي يبرُّ فيه صاحبه، ويتّقى فيه ربّه ؛ من أوّل خطوة يخطوها فيه إلى آخرها؛ فتكون نفقته طيّبة حلالاً ، خالصة من شبه الحرام؛ لأنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيّباً، ويكون فيه مخلصاً لربّه؛ يقصد به وجه الله ومرضاته، لا سمعة ولا رياء، ولا مباهاة ولا خيلاء ، وقد ثبت في (سنن ابن ماجه) عن أنس رضي الله عنه قال : (حَجَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تَسْوَى أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ -أَوْ لاَ تَسْوَى- ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لاَ رِيَاءَ فِيهَا ، وَلاَ سُمْعَةَ).
كما يحافظ صاحبه فيه على سنن الحجّ وآدابه؛ فضلا عن أركانه وفرائضه وواجباته، ويحرص مع ذلك على فعل الفضائل والمستحبّات، واجتناب الذّنوب والمنكرات ؛ ثمّ يداوم على طاعة ربّه بعد رجوعه من حجّه في سائر الأوقات؛ ولهذا قال الحسن البصري: "الحجُّ المبرور أن يرجع زاهداً في الدُّنيا، راغباً في الآخرة".
ألا فكن يا عبد الله! لنداء ربّك من الملبّين؛ فقد دعاك إلى بلد حرام، في بيت حرام، ووعدك به أسنى الضّيافة، وأهنأ الإكرام؛ فعلام التّسويف من عام إلى عام؟! وهذا الموت يأخذ منّا أخاً وصديقاً، وقريباً ورفيقاً في كلِّ يوم من الأيّام؛ ألا فرحم الله عبداً سارع إلى طاعة ربَّه، وحجَّ بيتَه قبل أن يُدخل قبرَه.
اللهم إنّا نسألك أن تمنّ على من لم يحجّ منّا بحجِّ البيت الحرام، وتطهّره فيه من جميع الذّنوب والآثام، اللهمّ ووفّقنا للرّجوع إليه عاماً بعد عام؛ حتّى نلقاك ربّنا بسلام؛ اللّهمّ آمين.
وصلّى الله على نبيّنا محمّد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
بقلم/ نور الدين مسعي
الباحث بإدارة الإفتاء