اغتنام لحظات العمر في طاعة الله عزّ جلّ
الحمد لله حقّ حمده، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله؛ صلّى الله عليه وسلّم، وعلى آله، وصحبه.
أمّا بعد: فإنّ الزَّمان هو عنصر وجود الإنسان، وسبب بقائه، ووعاء عمره؛ الّذي يُسطِّر فيه تاريخَه، ويَرقُم فيه إنجازاتِه، ويُخلِّد فيه مجدَه وذكرَه، ويُودِع في طيّاته أخبارَه وآثارَه؛ الّتي تتناقلُها من ورائه الأجيال، وتتحدَّث بها بعده الأيّام؛ بل هو مادّة حياة العبد الّتي يزرع فيها سعادتَه، أو يبوء فيها بشقاوتِه؛ كلّ ذلك بحسب اغتنامِه له، واستفادتِه منه.
ولهذا كان للوقت أهميّةٌ كبيرةٌ، ومنزلةٌ عاليةٌ جليلةٌ؛ نوّهتْ بها أدلّةُ الوحيَيْن الكريمَيْن، ونطقتْ بها نصوصُ القرآنِ الكريمِ، وسنّةِ النّبيِّ عليه أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم؛ حيث امتنَّ الله تعالى بنعمة الوقت على عباده؛ فقال في محكم كتابه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 33-34]، وأرشد النّبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلم إلى شكر هذه النِّعمة الّتي أنعم الله بها عليه، واغتنامها في التقرب إليه؛ حتّى لا يكون من الخاسرين، ويوم القيامة من المغبونين؛ وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم -فيما رواه البخاريُّ في (صحيحه) (6049)-: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالْفَرَاغُ».
قال المُباركفُوريُّ في (تحفة الأحوذي) (4/485): «والمعنى: لا يعرف قَدْرَ هاتَيْن النِّعمتَيْن كثيرٌ من النَّاس؛ حيث لا يكسِبون فيهما من الأعمال كفاية ما يحتاجون إليه في معادهم؛ فيندَمُون على تضييع أعمارهم عند زوالها، ولا ينفَعُهم النَّدَم».
وأقسم الله تعالى بالوقت -أو الزَّمان- في آيات كثيرة من كتابه؛ منها قوله -عزّ شأنه: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [سورة العصر:1-3].
فأقسم الله -عزّ وجلّ- بالعصر، وهو الوقت؛ لما فيه من الآيات العِظام، والحوادث الجِسام، والحِكم والعِبر والعِظات لأولي النُّهى والأحلام، ولأنّه زمنُ تحصيل الأعمال الصالحة، والتجارة الرّابحة لأهل الطّاعة والإيمان، وزمنُ الشقاوة والخسارة لأهل الكفر والعصيان.
كما أقسم الله -سبحانه- بأجزاء أخرى من الوقت في مطلع سور عديدة من القرآن الكريم؛ كالليل والفجر والضحى. ومن المقرَّر عند العلماء: أنّ الله تعالى إذا أقسم بشيء من خلقه؛ فذلك ليَلْفِت الأنظار إلى عظمته، وينبِّه الناس إلى الاهتمام به.
وفي السُّنَّة النبويّة الشَّريفة ما يدلُّ على أهميّة اغتنام المسلم للوقت في مراحل حياته كلِّها؛ حتّى ولو كان في آخر لحظة من عمره؛ فقد روى الإمام أحمد في «مسنده» (ج3/191) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ؛ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ». والفسيلة: النّخلة الصّغيرة؛ كما في (فيض القدير) للمُناويِّ (3/40).
ولمّا علم السّلف الصالحون -رحمهم الله تعالى- أهميّة الوقت تتواترتْ كلماتُهم، وتتابعتْ أقوالهمُ في بيان عِظم شأنه، وجليل منزلته، وضرورة اغتنام العبد له فيما ينفعه، ويزيده قرباً من ربِّه؛ فرُوي عن أبي عبد الرّحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: «ما نَدِمتُ على شيءٍ نَدَمِي على يومٍ غَرَبتْ شمسُه: نقَص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي». وعن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال: «إنّ الليل والنهار يعملان فيك؛ فاعمَل فيهما». وعن الحسن البصريِّ -رحمه الله- قال: «أدركتُ أقواماً كانوا على أوقاتِهم أشدَّ منكم حرصاً على دراهمِكم ودنانيرِكم».
ومن كلام السّلف المأثور، وأقوالهم السّائرة: «مِن علامةِ المَقْتِ: إضاعةُ الوقت».
كما تتابعتْ نصائحُ العلماء ووصايا الحكماء في الحثّ على اغتنام الأنفاس واللّحظات، والأيّام والسّاعات فيما يرجع على العبد بالنفع والخيرات، ومن تلك الوصايا العظيمة: وصيّة الحافظ ابن الجوزيّ لولده أبي القاسم -رحمهما الله تعالى- في كتابه (لفتة الكبد في نصيحة الولد) (ص6)؛ حيث قال له: «واعلم يا بُنيّ أنّ الأيّام تبسط ساعاتٍ، وأنّ الساعاتِ تبسط أنفاساً، وكلُّ نَفَس خزانةٌ؛ فاحذر أن تُذْهِب نَفَساً في غير شيء؛ فترى يوم القيامة خزانةً فارغةً؛ فتندَم!».
ونظير هذا قوله في كتابه (صيد الخاطر) (ص162):
«واعلم أنّ الزَّمان أشرف من أن يضيع منه لحظة؛ فإنّ في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ؛ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ».[أخرجه الترمذي (3464)، وصحّحه]؛ فكم يضيِّع الآدميُّ من ساعاتٍ يفوتُه فيها الثوابُ الجزيلُ؟!..».
وقال الإمام ابن القيِّم - رحمه الله- في كتابه (الفوائد) (ص164) : «السَّنة شجرة، والشهور فروعها، والأيّام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها؛ فمن كانت أنفاسه في طاعة: فثمرة شجرته طيِّبة، ومن كانت في معصية: فثمرته حَنْظل، وإنّما يكون الجَذاذ - يعني: جني الثمار- يوم المَعاد؛ فعند الجَذاذ يَتبيَّن حُلوُ الثِّمار من مرِّها».
ورحم اللهُ الوزيرَ ابن هبيرة إذ قال:
وَالْوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ *** وَأُرَاهُ أَسْهَـلَ مَا عَـلَيْكَ يَـضِيعُ
وإنّني -والله- حين أقرأ هذه الوصايا وتلك الكلمات من السّلف الصّالحين والعلماء الرّبّانيين في المحافظة على الوقت، وأتذكَّر حال بعض الخاصّة الّذين لا يكاد يخلو منهم زمان، ولا سيّما زماننا؛ ممّن يدَّعون العلم، وينتسبون إلى طلبه، والّذين لا يكاد يمرُّ على الواحد منهم يومٌ إلّا ويضيِّع فيه ساعةً، أو ساعاتٍ في القيل والقال، والحديث عن فلان وعلّان، وربّما كان ذلك على حساب واجباتٍ تلزمُهم، وأعمالٍ هي أمانةٌ في أعناقِهم = تصيبني الحيرة، ولا يكادُ ينتهي عجبي منهم، وأقول في نفسي: أهكذا يكونُ طالبُ العلم؟!...وأين نحن من أولئك؟!...ثمّ سرعان ما يجول في خاطري، ويختلج في صدري: قولُ مخلد بن حسين -رحمه الله-؛ الّذي ذَكر عنه الحافظُ ابنُ الجوزيّ في (صفة الصفوة) (4/266): أنّه كان إذا ذُكر عنده الصّالحون، وأخلاقُ الصّالحين أنشد قائلاً:
لَا تَعْرِضَنَّ لِذكْرِنَا فيِ ذِكْرِهِمْ *** لَيْسَ الصَّحِيحُ إِذَا مَشَى كَالمُقْعَدِ
وإنّني أقول: إنّ طالب العلم المقدِّر لعلمِه، والنّاصِح لنفسِه لا ينبغي أبداً أن يكون من أولئك البطّالين، وإن كانوا بزِيِّ العلم متلبِّسين، ولا أن يسمح لنفسه بذلك!...فقد وصّى بعضُ الشيوخ طلّابه؛ فقال لهم: «احذَرُوا مخالطةَ من تضيِّع مخالطتُه الوقتَ، وتُفسِد القلبَ؛ فإنّه متى ضاع الوقتُ وفسَد القلبُ: انفرطتْ على العبدِ أمورُه كلُّها، وكان ممّن قال الله فيه: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:28]».
وهنا مهمّة ينبغي أن تُعلَم: أنّ للوقت ثلاثَ خصائصَ تجب معرفتها وإدراكها؛ حتّى نعمل فيه على وَفقها، وهذه الخصائص هي:
أوّلاً: سرعة انقضائه؛ فهو يمرُّ سريعاً كلمح البصر؛ سواءٌ كان زمنَ مسرَّةٍ وفرَحٍ، أم كان زمنَ اكتئابٍ وترَحٍ. ومهما طال عمر الإنسان في هذه الحياة فهو قصير؛ فقد قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾ [يونس : 45] . وقد نقل السيوطيُّ في (الدّرّ المنثور) (11/612) عن قتادة -رحمه الله- أنّه قال: «يعنُون في الدُّنيا؛ استقلَّ القومُ أجلَ الدُّنيا؛ لمّا عاينوا الآخرة».
ثانياً: أنّ ما مضى منه لا يعود ولا يعوَّض؛ فكلُّ لحظة مرَّتْ، وكلُّ ساعة انقضتْ ليس في الإمكان ردُّها، ومن ثمَّ لا يمكن تعويضُها؛ وهذا ما عبّر عنه الحسن البصريُّ -رحمه الله- بقوله: «ما من يومٍ ينشقُّ فجرُه إلَّا ويقولُ: يا ابنَ آدمَ أنا يومٌ جديدٌ، وعلى عملِك شهيدٌ؛ فاغتنمني فإنِّي لَا أعودُ إلى قيامِ السَّاعةِ». وفي هذا يقول الشاعر :
إِنَّــــا لَـنَفْـرَحُ بِـالْأَيَّـــــامِ نَقْطَـعُـهــــا *** وَكُـلُّ يَوْمٍ مَضَى يُـدْنِي مِــنَ الْأَجَــلِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ المَوْتِ مُجْتَهِداً *** فَإِنَّمَا الرِّبْـــــــحُ وَالْخُسرَانُ فِي الْعَمَلِ
ثالثاً: أنّه أغلى ما يملك الإنسان؛ ويرجع ذلك إلى أنّ الوقتَ وعاءُ العمر، ومادَّةُ الحياة؛ فالوقت ليس من ذهب فقط كما يقول المثل؛ بل هو أغلى في حقيقة الأمر من الذهب، ومن المال؛ لأنّه يمكن تعويضُ ما فات من المال، وما فات من الوقت لا يمكن تعويضُه بحال؛ ولذا قال بعض السَّلف: «إنِ اغتممتَ بما ينقُص من مالِك؛ فابْكِ على ما ينقُص من عمرِك!».
ولأجل ما سبق: جاء التّوجيه الكريم من النّبيّ- عليه أفضل الصلاة وأزكى التّسليم- إلى ضرورة اغتنام المؤمن لوقته قبل فواته وضياعه، وخصّ الشّابَّ المسلمَ بمزيد من التّأكيد على أهميّة اغتنامه لشبابه؛ الّذي يتمتّع فيه بكامل قوّته ونشاطه، وفراغه واستعداده؛ وذلك فيما رواه الحاكم في «المستدرك» (8746) وصحّحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ».
فينبغي على العبد أن يعمُر وقتَه فيما يقرِّبه من خالقه، ويعينه على صلاح حاله في معاشه ومعاده، وأن يحذر من تضييع وقته فيما لا ينفعه؛ لا في دنياه، ولا في أُخراه؛ ذلك لأنّه مسؤول عن وقته يوم لقاء ربِّه؛ فقد أخرج التّرمذيّ في (سننه) (2417) عن أبي بَرْزَة الأسلميّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ». وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول -كما روى البخاريُّ في (صحيحه) (6053)-: «إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصَّباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظرِ المساءَ، وخُذْ من صحَّتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك».
فعمر الإنسان هو موسم الزّرع في هذه الحياة، والحصاد غداً في الآخرة؛ فلا يحسنُ بالعبد أن يضيِّع موسم زَرْعه؛ حتّى لا يندم في يوم حصاده!
ولكي لا يضيِّع الإنسانُ وقتَه الّذي هو حياته: ينبغي أن يعرفَ أين ينفقُه؟ وفيمَ يصرفُه؟ وأجلُّ المصارف وأفضلُها طاعةُ الله -عزّ شأنه-؛ فكلُّ وقت صرفته في طاعةِ الله وعبادته لن تندمَ عليه بحال.
يقول الإمام ابن القيِّم -رحمه الله- في كتابه (الجواب الكافي) (ص 109 ): «فالعارف ابن وقته؛ فإنْ أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلُّها؛ فجميع المصالح إنّما تنشأ من الوقت؛ فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبداً. قال الشافعي رضي الله عنه: صحبت الصوفيّة فلم أستفد منهم سوى حرفين: أحدهما: قولهم: الوقتُ سيفٌ فإن لم تقطعْه قطعك. وذكر الكلمة الأخرى: ونفسُك إن أشغلتها بالحقِّ، وإلّا أشغلتك بالباطل.
فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادَّة حياته الأبديّة في النّعيم المقيم، ومادَّة المعيشة الضَّنْك في العذاب الأليم، وهو يمرُّ أسرع من مرِّ السَّحاب؛ فما كان من وقته لله وبالله؛ فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته، وإنْ عاش فيه عيش البهائم...».
ولهذا قال أحد الحكماء : «من أمضى يوماً من عمره في غير حقٍّ قضاه، أو فرضٍ أدّاه،أو مجدٍ أثَّله، أو حمدٍ حصَّله، أو خير أسَّسه، أو علمٍ اقتبسه = فقد عقَّ يومَه، وظلَم نفسَه».
وفي هذا يقول الإمام الشّافعيُّ -رحمه الله-:
إِذَا هَجَعَ النُّوَّامُ أَسْبَلْتُ عَبْرَتِي *** وَأَنْشَدتُّ بَيْتاً وَهْوَ مِنْ أَلْطَفِ الشِّعْرِ
أَلَيْسَ مِنَ الْخُسْرَانِ أَنَّ لَيَالِــياً *** تَمـُرُّ بِـلَا عِلْمٍ وَتُحـْسَبُ مِنْ عُمْرِي
وقال الشّاعر:
إِذَا مَرَّ بِي يَوْمٌ وَلَمْ أَصْطَنِعْ يَداً *** وَلَمْ أَسْتَفِدْ عِلْماً فَمَا هُوَ مِنْ عُمْرِي
وإذا كانت قيمة الزمن ترتبط بالغاية من الخلق، وهي عبادة الله؛ فإنّ المولى
-سبحانه- اختصّ بعض الأزمنة بخواصَّ لم يختصَّ بها غيرها؛ ففضّلها على سائرها، ورغَّب في اغتنامها، والتعرُّض لنفحاتها، وفي هذا يقول قتادة -رحمه الله- كما في (تفسير الطبري) (14/ 239):
«إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه؛ اصطفى من الملائكة رسُلاً، ومن النّاس رسُلاً، واصطفى من الكَلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهرَ الحُرُم، واصطفى من الأيّام يوم الجمعة، واصطفى من اللَّيالي ليلةَ القدر؛ فعظِّموا ما عظّم الله، فإنّما تعظَّم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم، وأهل العقل».
فحريٌّ بالمسلم أن يخصَّ هذه الأوقات بمزيد من التّعبُّد والطاعة لله -سبحانه وتعالى- والإكثار من العمل الصَّالح فيها، وليعلم أنّه لا يُميَّز يومٌ على يوم، ولا ساعة ٌعلى ساعة إلّا لفضل فيها؛ فليحرص على اغتنامه.
واعلم أنّ أفضلَ العبادةِ على الإطلاق: التعبُّدُ لله تعالى بالعبادة الّتي حان وقتُها، وخاصّة إذا كان وقتُها ضيِّقاً لا يتّسع لغيرِها، ولا يمكن بعد فواتِه تدارُكها؛ كإجابة المؤذِّن، واتِّباع الجنازة، وغيرِهما، وهذا ما وضّحه الإمامُ ابنُ القيِّم في كتابه القيِّم (مدارج السّالكين) (ج 1 / ص 88-89)؛ حيث قال:
«أفضلُ العبادةِ: العملُ على مرضاة الربِّ في كلِّ وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته؛ فأفضلُ العباداتِ في وقت الجهاد: الجهادُ...والأفضلُ في وقت حضور الضَّيف مثلاً: القيامُ بحقِّه... والأفضلُ في أوقات الأذان: تركُ ما هو فيه من وِرْدِه، والاشتغالُ بإجابة المؤذِّن، والأفضلُ في أوقات الصَّلوات الخمس: الجِدُّ والنُّصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرةُ إليها في أوّل الوقت، والخروجُ إلى الجامع...والأفضلُ في أيَّام عشر ذي الحجَّة: الإكثارُ من التعبُّد ...والأفضلُ في العشر الأخير من رمضان: لزومُ المسجدِ فيه، والخلوة، والاعتكاف، دون التَّصدِّي لمخالطة الناس، والاشتغال بهم... والأفضلُ في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادتُه، وحضورُ جنازته، وتشييعُه، وتقديمُ ذلك على خلوتك وجمعيّتك...؛ فالأفضلُ في كلِّ وقت وحال: إيثارُ مرضاةِ الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغالُ بواجب ذلك الوقت، ووظيفتِه، ومقتضاه».
وإنّ ممّا ينبغي أن يؤثِره المسلم في هذه الأيّام؛ الّتي نستقبلُ فيها شهر شعبان: هو الإكثار من الصِّيام؛ تأهُّباً لرمضانَ، وترويضاً للنّفس على عبادة الصِّيام؛ الّتي كان يُكثر منها في هذا الشّهر النبيُّ - عليه الصّلاةُ والسّلامُ-؛ فقد ثبت عند البخاريِّ (ح 1970)، ومسلم (ح 1156) -واللفظ له-، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «وَلَمْ أَرَهُ -تعني: النبيَّ صلى الله عليه وسلم- صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ؛ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ؛ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا». وقولُها: «يصوم شعبان كلَّه»: تعني: أكثره؛ كما هو معروف من لغة العرب: استعمال (كلّ) في الأكثر والأغلب، ويدلُّ عليه قولُها بعده: «كان يصوم شعبان إلّا قليلاً».
وها هنا مهمّةٌ أخرى، وهي: أنّ العبد إذا كان يعلم يقيناً بأنّه مهما طال عمرُه فإنّ الموتَ مصيرُه المحتَّم، والموتُ يقطعه عن صالح العمل؛ فإنّ عليه أن يعمل في حياته ما يدوم له أجرُه بعد مماته؛ وتلكم الحسنة الباقية: هي الصدقة الجارية؛ فإنْ كان له شيءٌ من مال وقف وقفاً مثلاً، وإنْ كان له علم صنَّف كتاباً في العلم؛ فإنّ تصنيفَ العالِم ولدُه المُخلَّد، أو انبرى للتَّعليم والتَّدريس؛ فخلّف من أبناء فِكرِه من قد يكون أنفعَ له من أبناءِ صُلبِه، وإنْ لم يكن له مالٌ، ولا علمٌ: احتسب الأجر في الزّواج، وسعى في تحصيل ذرِّية طيّبة تذكر الله بعده؛ فيكون له أجرُها، أو لزم العبادة والطّاعة؛ حتّى يكون رأساً فيها؛ فيُنقل من فعلِه، وجميلِ هديه وسمتِه ما يقتدي غيرُه به؛ فإنّ آثارَ هذه الأعمال تمتدُّ إلى ما بعد زمانِه، ويبقى عملُه موصولاً حتّى بعد موتِه؛ يؤدِّي رسالتَه للأحياء، وصاحبُه رَميمٌ في قبرِه، وقد أشار القرآنُ إلى هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس:12].
وروى مسلم في «صحيحه» (4310) عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّـه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
وأخيراً!...عليك أيّها العاقلُ، النّاصحُ لنفسِه أن تتدارك أوقاتَك، وأن تعدّ أنفاسَك، وأن تكون حافظاً لوقتك، شحيحاً به؛ فلا تفرِّطْ في شيء من لحظاتِ عمرك، ولا تهدِرْ منها شيئاً إلّا فيما ينفعك في دنياك وآخرتك، واعلم أنّ وقتَك شاهدٌ لك أو عليك.
ألا فبادر!
فَبَـــادِرْ شَبَابَـــكَ أَنْ يَهْرَمَــا *** وَصِحَّـــةَ جِسْمِـــكَ أَنْ تَسْقَمَا
وَأَيَّامَ عَيْشِكَ قَبْلَ الْمـَمَــاتِ *** فَمَا دَهْرُ مَنْ عَاشَ أَنْ يَسْـلَمَا
وَوَقْـتَ فَـرَاغِــكَ بَـــادِرْ بِــــهِ *** لَيَــــالِيَ شُغْلِكَ فِي بَـعْضِ مَا
وَقَــدِّمْ فَكُـــلُّ امْـرِئٍ قـَــادِمٌ *** عَلَى بَعْضِ مَا كَانَ قَدْ قَدَّمَـــــا
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على نبيّنا محمّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم.
بقلم / نور الدّين عبد السّلام مسعي
الباحث بإدارة الإفتاء
|