إدارة الإفتاء

الأضحية وأحكامها


 

الأضحية وأحكامها

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهم واتبع هديهم إلى يوم الدين، أما بعد:

فالأضحية نسك من أنساك الإسلام، وشعيرة من شعائره العظام، أمر بها الرب سبحانه وتعالى في كتابه الكريم فقال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2]، وحث عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً.

أما من قوله عليه الصلاة والسلام: فما روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أوَّلَ ما نَبدَأُ به في يَومِنا هَذا أنْ نُصلِّيَ، ثمَّ نَرجِعَ فَنَنْحَر، مَنْ فَعَلَهُ فَقَد أَصابَ سُنَّتَنا، ومَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّما هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ في شَيءٍ) فقامَ أبو بُرْدَة بن نيار وقَدْ ذَبَحَ، فقالَ: إِنَّ عِندي جَذَعَةٌ، فقالَ: (اذْبَحْها وَلَن تُجْزِئَ عَن أَحَدٍ بَعْدَكَ) [رواه البخاري ومسلم].

وأما ما ورد من فعله عليه الصلاة والسلام: ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ضَحَّى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَينِ أَمْلَحَينِ أَقْرَنَينِ، قال: وَرَأَيتُهُ يَذْبَحْهُما بِيَدِهِ، وَرَأَيْتُهُ وَاضِعاً قَدَمَهُ عَلَى صِفاحِهِمَا، قال: وَسَمَّى وَكَبَّرَ[رواه البخاري ومسلم].

والأضحية سنة مؤكدة على القادر ؛ في قول جماهير أهل العلم؛ ويدل لذلك ما روت أم سلمة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَخَلَتِ العَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَنْ يُضَحِّيَ فَلا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيئاً) [رواه مسلم]، وفي رواية: (فَلا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلا أَظْفَارِهِ شَيئاً[رواه الدارمي].

قال البيهقي رحمه الله: «قال الشافعي رحمه الله: وفي هذا الحديث دلالة على أن الضحية ليست بواجبة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (فأراد أحدكم أن يضحي)؛ فلو كانت الضحية واجبة أشبه أن يقول: (فلا يمس من شعره حتى يضحّي)»[سنن البيهقي (9/263)]؛ فجعله مفوضاً إلى إرادته، وما كان كذلك كان على سبيل الاختيار لا الإلزام.

قلت: ولا يشكل على كلام الشافعي أنه ثبت عند مسلم في لفظ آخر قوله: (فلا يمس من شعره ولا ظفره شيئاًَ حتى يضحي)؛ فإنه أناطه بالإرادة أيضاً؛ حيث قال في أوله: (من كان عنده ذبح يريد أن يذبحه؛ فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يمس...) الحديث.

ومما يدل على سنية الأضحية ما روى جابر بن عبدالله رضي الله عنه (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الأَضْحَى بالمُصَلَّى، فَلَمّا قَضَى خُطْبَتَهُ نَزَلَ مِنْ مِنْبَرِهِ وَأُتِـيَ بِكَبْشٍ، فَذَبَحَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: بِسْمِ الله، واللهُ أَكْبَرُ، هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَم يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي) [رواه أحمد وأبوداود والترمذي]؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: (وعمن لم يضح من أمتي) ظاهر في أن ترك بعض الأمة للأضحية دليل على أنها سنَّةٌ.

يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في بيان وجه الدلالة من هذا الحديث وما في معناه: «الظاهر أن تضحيته صلى الله عليه وسلم عن أمته وعن أهله، تجزئ كل من لم يضح، سواء كان متمكناً من الأضحية أو غير متمكن» [نيل الأوطار (5/126)].

ومما يدل على سُنيَّة الأضحية ما جاء عن أبي سريحة قال: (أَدْرَكْتُ أَبا بَكْرٍ -أو رَأَيتُ أَبا بَكْرٍ- وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما كَانَا لا يُضَحِّيانِ -في بعض حديثهم- كَرَاهِيَةَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمَا) [رواه البيهقي (9/265)].

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (إِنِّي لأَدَعُ الأَضْحَى وَإِنِّي لَـمُوسِرٌ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى جِيرَانِـي أَنَّهُ حَتْمٌ عَلَيَّ) [رواه البيهقي (9/265)].

ولا تجزئ الأضحية إلا بشروط ينبغي للمضحي مراعاتها ؛ وهي:

الشرط الأول: أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام:

ويقصد ببهيمة الأنعام : الإبل عراباً كانت أو بخاتي ، والبقر الأهلية ومنها الجواميس، والغنم ضأناً أو معزاً. ولا فرق في ذلك بين الذكور والإناث.

 

يقول الإمام القرطبي رحمه الله: «والذي يُضحَّى به بإجماع المسلمين: الأزواج الثمانية؛ وهي: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر» [تفسير القرطبي (15/109)].

الشرط الثاني: أن تبلغ الأضحية السِّنَّ المعتبرة شرعاً:

فلا يجزئ في الإبل والبقر والمعز إلا ما كان ثنياً فما فوقه، وأما الضأن فيجزئ فيه الجذع فما فوقه؛ لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تَذْبَحُوا إِلاّ مُسِنَّـةً ، إِلاَّ أَن يَعْسُرَ عَلَيكُم فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ[رواه مسلم]. والمُسِنَّة: هي الثَّنِيَّة فما فوقها من كل شيء من الإبل والبقر والغنم. [شرح النووي على مسلم (5/101-102)].

فيجزئ من الضأن ما أتم ستة أشهر ، ومن المعز ما أتمَّ سَنَةً ودخل في الثّانية، ومن البقر ما أتمَّ سَنتين ودخل في الثّالثة، ومن الإبل ما أتمَّ خمس سنين ودخل في السّادسة.

الشرط الثالث: أن تكون الأضحية سالمة من العيوبة المانعة من صِحَّتها:

 

والعيوب التي تمنع من إجزاء الأضحية أربعة؛ وردت السنة ببيانها؛ كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَرْبَعٌ لا تُجْزِئُ في الأَضَاحِي: العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُها، وَالمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُها، والعَرْجَاءُ البَيِّنُ ضَلْعُها، وَالكَسِيرُ الَّتِي لا تُنْقِي[رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه].

- أما العوراء؛ فهي التي ذهبت إحدى عينيها، بحيث يعلم الناظر إليها ذهاب عينها للوهلة الأولى، وأولى في المنع منها العمياء التي ذهبت كلتا عينيها.

- وأما المريضة؛ فهي التي أصيبت بمرض يؤثر في لحمها ويفسده وينقص ثمنها؛ كالمريضة بمرض يقعدها عن المرعى ويمنع شهَّيتها، والمريضة بمرض ظاهر يفسد لحمها أو يؤثر في طيبه وصحته.

- وأما العرجاء؛ وهي التي أصيبت في إحدى قوائمها بحيث يمنعها من مسايرة السليمة في ممشاها. وأولى منها في حكم المنع البهيمة التي قطعت إحدى قوائمها.

- وأما الكسير التي لا تنقي؛ فهي الهزيلة التي ذهب مخها الذي في داخل العظام؛ فلا تقوى على القيام والنهوض من الهزال.

 

يقول الحافظ ابن عبد البر رحمه الله : «أما العيوب الأربعة المذكورة في هذا الحديث فمجتمع عليها، لا أعلم خلافاً بين العلماء فيها، ومعلوم أن ما كان في معناها داخل فيها، ولا سيما إذا كانت العلة فيها أبين، ألا ترى أن العوراء إذا لم تجز فالعمياء أحرى ألا تجوز، وإذا لم تجز العرجاء، فالمقطوعة الرِّجلِ أو التي لا رِجْلَ لها المقعدة أحرى ألا تجوز، وهذا كله واضح لا خلاف فيه، والحمد لله» [التمهيد (20/168)].

الشرط الرابع: أن يملك المضحِّي الأضحية، أو يكون مأذوناً له فيها:

فلا تصح الأضحية المسروقة ولا المغصوبة، ولا المأخوذة بدعوى باطلة؛ لأنه لا يصح أن يتقرب إلى الله تعالى بمعصية، وتصح تضحية الموكَّل عن وكيله؛ لأنه مأذون له فيها.

الشرط الخامس: أن لا يتعلق بها حق للغير: 

فلا يصح التضحية بالبهيمة المرهونة؛ لتعلق حق الراهن فيها.

الشرط السادس: أن يضحي بها في الوقت المحدد شرعاً:

 

ووقت الذبح يكون من بعد صلاة العيد يوم النحر إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق؛ وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة؛ لما جاء في حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح) [رواه أحمد وابن حبان وصححه].

فيجزئه الذبح في اليوم العاشر بعد صلاة العيد، واليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، واليوم الثالث عشر إلى غروب الشمس.

فإن ذبح قبل صلاة العيد ، أو بعد غروب شمس يوم الثالث عشر من ذي الحجة، لم تجزئه لما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَإِنَّما هُوَ لَـحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ، وَلَيسَ مِنَ النُّسُكِ في شَيءٍ)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَها أُخْرَى[رواه البخاري ومسلم].

 

فإذا تحققت هذه الشروط جاز للمسلم أن يضحِّي؛ فتجزئ الأضحية الواحدة من الغنم عن الرجل وأهل بيته ولو كثروا؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِى سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّىَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ هَلُمِّى الْمـُدْيَةَ. ثُمَّ قَالَ: اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ. فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ الله؛ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ ضَحَّى بِهِ) [رواه مسلم].

وعن جابر رضي الله عنه قال: (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الأَضْحَى بالمُصَلَّى، فَلَمّا قَضَى خُطْبَتَهُ نَزَلَ مِنْ مِنْبَرِهِ وَأُتِـيَ بِكَبْشٍ، فَذَبَحَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: بِسْمِ الله، واللهُ أَكْبَرُ، هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَم يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي).

قال النووي رحمه الله: «واستدل بهذا من جوّز تضحية الرجل عنه وعن أهل بيته، واشتراكهم معه في الثواب، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور». [شرح صحيح مسلم (113/122)].

وقال الخطابي رحمه الله: «وفي قوله: (تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا». [معالم السنن (2/228)]

 

ولا يصح أن يشترك اثنان أو أكثر في الأضحية من الغنم يشتريانها فيضحيان بها. وهذا بخلاف الأضحية من الإبل أو البقر؛ فيجزئ سُبُع كلِّ واحدة منها عما يجزئ عنه الواحدة من الغنم؛ فيمكن لسَبْعَةٍ أن يشتركوا في بَقَرة أو بَعيرٍ، ويُجزئ كل سُبُعٍ منها عن صاحبه وأهل بيته.

ودليل الاشتراك في البقر والإبل ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: (نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ البَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ) [رواه مسلم].

فإذا ذبح المسلم أضحيته استحب له أن يقسم لحم أضحيته أثلاثاً ، ثلث للأكل، وثلث للهدية، وثلث للصدقة، كما نقل ذلك عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما؛ وذلك لقول الله تعالى : ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ﴾ [الحج: 36].

ويجوز له أن يقسمها نصفين؛ نصف يأكله، ونصف يتصدق به؛ لقوله تعالى : ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ﴾ [الحج: 27].

 

كما اتفق العلماء على أنه لا يجوز بيع شيء من لحمها، أو شحمها، أو جلدها، ولا يعطي الجزّار منها شيئاً على سبيل الأجرة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في حديث علي رضي الله عنه قال: (أَمَرَني رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدُنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِها، وَأَلاَّ أُعْطِيَ الجَزَّارَ مِنْهَا شَيئاً، وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا) [رواه البخاري ومسلم].

وبعد إخواني في الله؛ فهذه أهم أحكام الأضحية التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، واعلموا أن إراقة دماء الأضاحي عبادة عظيمة، وشعيرة من الشعائر الجليلة ، وفعلها تقرباً إلى الله تعالى دليل تقوى القلوب؛ كما قال تعالى: ﴿ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم﴾ [الحج:37]، وقوله: ﴿ذَلِكَ وَمْن يُّعَظِّمْ شَعَآئِرَ الله فَإِنَّها مِن تَقْوَى القُلُوبِ﴾ [الحج: 32]. فاحرصوا يا رعاكم الله على إظهارها، والقيام عليها بأنفسكم؛ تعظيماً وإجلالاً لله سبحانه وتعالى.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

بقلم/ د. أيمن محمد العمر

الباحث بإدارة الإفتاء

وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - دولة الكويت - إدارة الإفتاء