كما بيّن النبي أن ذلك المتجرئ على الفتوى بغير علم إنما هو بفعله هذا يثقل ظهره بحمل أوزار الذي اتبعوه على فتواه ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) [أخرجه أبو داود].
فليس أمر الفتيا بالهين واليسير ، حتى كان الصحابة رضوان الله عليهم لخطورة أمره يتدافعون الفتوى كل واحد منهم يتمنى لو أن أخاه كفاه ؛ فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردَّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول» ، وفي رواية: « ما منهم من أحد يُحدِّث بحديث إلا ودَّ أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا » [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر] .
ولقد كان نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو صاحب الشريعة يُسأل عن أشياء لم ينزل فيها وحي ، فينتظر الوحي ليعلمه بحكم الله فيها . وآيات «يسألونك» في كتاب الله غير قليلة وشاهدة على ذلك.
وبذلك يرسم لنا المسلك الصحيح في هذا الأمر ، لنتبعه ونقتدي به ، فسار الصحابة من بعده على هديه ومسلكه ؛ فهذا أبو بكر يسأل عن شيء من تفسير القرآن لا يعلمه فقال رضي الله عنه :« أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم » [أخرجه البزار] .
وقال ابن مسعود: « أيها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم » [جامع بيان العلم وفضله] .
وصح عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا: « من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون » [الفقيه والمتفقه ، جامع بيان العلم وفضله] .
وعن ابن عمر « أنه سئل عن شيء فقال : لا أدري ، ثم قال : أتريدون أن تجعلوا ظهورنا جسوراً لكم في نار جهنم ، أن تقولوا أفتانا ابن عمر بهذا » [الفقيه والمتفقه] .
وعلى نهجهم سار التابعون وتابعوهم في التورع عن الفتيا مع ما هم عليه من العلم والفضل؛ فعن الشعبي أنه كان في نفر من تلاميذه ، فسأله رجل عن مسألة فقال: « لا أحسنها » ، وعندما ولّي الرجل قال تلاميذه : « قد استحيينا لك مما رأينا منك » ، فقال: « لكن الملائكة المقربين لم تستحي حين قالت: ) لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ( [البقرة:32] » [جامع بيان العلم وفضله] .
وجاء رجل إلى مالك بن أنس – عالم أهل المدينة - فقال: « يا أبا عبد الله ! جئتك من مسيرة ستة أشهر حمَّلني أهل بلدي مسألة أسألك عنها ، قال: فسل، فسأله الرجل عن المسألة ، فقال: لا أحسنها، قال : فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء ، فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك لا أحسن » [جامع بيان العلم وفضله].
وعن أبي نضرة قال: « قرأت هذه الآية في سورة النحل: ) وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ...( ، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا » [أخرجه أبو حاتم في التفسير] .
بل إن من كمال ورعهم وتقواهم لله تعالى أنهم كانوا يتورعون عن إطلاق لفظ الحل أو الحرمة فيما يسألون به من المسائل ، وإنما يستبدلون ذلك بألفاظ تفيد الترغيب أو التحذير اعتقاداً منهم أن التحليل والتحريم حق لله تعالى وحده ؛ فعن ابن وهب قال : « قال مالك : لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا...».
قال القرطبي : « ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون البارئ تعالى يخبر بذلك عنه، وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول: إني أكره كذا وكذلك، وكان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى» [تفسير القرطبي].
فإذا علمنا أن العلماء الربانيين كانوا يتدافعون الفتيا ويحيلون أمرها إلى غيرهم ، أيقنا أنه ليس لكل أحد من الناس أن يفتي ولو كان إماماً أو واعظاً أو خطيباً ، ومن باب أولى نهي العامة وأنصاف المتعلمين عن إطلاق ألسنتهم بالتحليل والتحريم والجرأة على الفتيا. وقد نقل ابن عبد البر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر « أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم : « لا أحسنه »، فجعل الرجل يقول: إني دُفعت إليك، لا أعرف غيرك؛ فقال القاسم: « لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه » [جامع بيان العلم وفضله] .
وليعلم أولئك المتجرئون على الفتيا أنهم بقولهم يبذلون لحومهم ودماءهم للنار؛ كما قال الإمام سحنون رحمه الله حينما أعضلته مسألة فقال له صاحبها: « وأنت أصلحك الله لكل معضلة »، فقال: « هيهات يا ابن أخي! ليس بقولك هذا أبذل لك لحمي ودمي إلى النار » [أدب المفتي]
دخل رجل على الإمام رَبيعة شيخ مالك فوجده يبكي ، فقال له : « ما يبكيك؛ أمصيبة دخلَتْ عليك؟ فقال : لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم ، ولَبَعض من يفتي ههنا أحقُّ بالسجن من السُّرَّاق » [إعلام الموقعين لابن القيم] .
يقول ابن الصلاح : « رحم الله ربيعة ، كيف لو أدرك زماننا » [أدب المفتي].
ونحن نقول : رحم الله علماء الأمة جميعاً ! كيف لو أدركوا زماننا ! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
بقلم
د/ أيمن محمد العمر
الباحث في إدارة الإفتاء