السَّفـر أحكام وآداب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد الغرِّ المُحَجَّلين ، سيدنا ونبيِّا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد ...
فقد اتسمت شريعتنا الإسلامية بِسِمَات كثيرة ، وتفرَّدت وتميَّزت بأمور عظيمة لم تكن لغيرها من الشرائع السابقة. وإنَّ من أبرز وأجلِّ ما تميَّزت به تلك الشريعة الغَرَّاء ، أنها جاءت سهْلَة سَمْحة؛ ترفع الحرج، وتدفع المشقَّة، وتُقدِّر الضرورة، وتلتمس العذر، وتراعي أحوال الناس في كيفية أداء التكاليف الشرعية، فَفَرَّقت بين الصحيح والمريض، والمسافر والمقيم، والآمن والخائف، وجعلت لكل صِنْفٍ من هؤلاء ما يناسبه من الأحكام؛ مع مراعاة حاله، وتقدير عذره، ومن ثمَّ رَفْعِ الحَرَج والمشقَّة عنه؛ تطبيقاً لقول الله عز وجل: )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( [الحج: 78] . ولقوله سبحانه أيضاً : )يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ( [البقرة: 178] . ومِنْ هنا كان للمسافر أحكامه الخاصة التي تتناسب مع حالته وما يَعْتريه فيها من مَشقَّة وتعب وإرهاق ، كما قال أصدق الخلق ﷺ : (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) [رواه البخاري ومسلم] . فحَرِيُّ بكلِّ مسافرٍ أن يَتَعرَّف على هذه الأحكام، وأن يَطَّلع على هذه الرُّخص التي أرخصها الله عز وجل له في سفره، فإنه سبحانه يحبُّ أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تُؤتى عزائمه .
ومن أهم الأحكام التي يحتاج المسافر إلى معرفتها في سفره ما يلي :
أولاً : قَصْـرُ الصَّـلاة :
* فيُشْرَعُ للمسافر قَصْر الصلاة الرباعية إلى ركعتين ، فيصلى الظهر ركعتين ، والعصر ركعتين ، والعشاء ركعتين ؛ لقول الله عز وجل )وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ( [النساء:101]. وأما الفجر والمغرب فلا تُقْصر الصلاة فيهما إجماعاً.
* قَصر الصلاة في السفر أفضل من إتمامها؛ لمواظبة النبي ﷺ على ذلك في جميع أسفاره يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: (صَحِبْتُ رَسُولَ الله ﷺ في السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله، ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله، وَقَدْ قَالَ الله تعالى: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ(). [رواه مسلم] .
* المسافة التي يُقْصَرُ فيها :
إذا سافر المسلم مسافةً تصل إلى أربعة بُرُد ، وهو ما يقارب ثمانين كيلو متراً ، فإن له قَصْرَ الصلاة ؛ لما ثبت عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ . [رواه البخاري مُعلَّقاً، ووصله البيهقي] .
* يبدأ القصر للمسافر بعد مغادرته لمساكن البلدة التي يسكنها ، فلا يجوز له القصر وهو لا يزال في بلدته أو دار إقامته ؛ لأن الله أباح القصر لمن ضرب في الأرض ، وقبل خروجه من بلده لا يكون ضارباً في الأرض ولا مسافرا ، ولأن النبي ﷺ لم يقصر في شيءٍ من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة كما قال الإمام النووي. يقول أنس رضي الله عنه: (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله ﷺ الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ) [رواه البخاري ومسلم] .وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّهُ كانَ يَقْصُرُ الصَّلاةَ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بُيُوتِ المَدِينَةِ . [أخرجه عبد الرزَّاق في المصنَّف وإسناده صحيح] .
* مـدَّة القَصـر :
1- يقصر المسافر طوال الطريق في سفره ؛ لأنه مسافر، وكذا يقصر في البلد الذي سافر إليه إذا نوى الإقامة فيه أقلَّ من خمسة عشر يوماً . أما إذا نوى الإقامة فيه أكثر من ذلك فحينئذٍ يعتبر مقيماً ولا يُشرع له القصر؛ لما يُروى عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: (إذا قَدِمْتَ بَلْدَةً وَأَنتَ مُسَافِرٌ وَفي نَفْسِكَ أَنْ تُقِيمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَكْمِل الصَّلاةَ بِهَا) [ذكره الزيلعي في نصب الراية وقال: أخرجه الطحاوي] .
وكذا إذا نوى الإقامة المطلقة فلا يُشْرع له القصر؛ وذلك لانعدام السبب المبيح للقصر في حقه.
2- إذا سافر إلى بلد ولم ينو الإقامة بها ، بل خرج إليها يطلب حاجة له ، أو علاجاً ، أو يبحث عن ضالة ثم يرجع ، لكنه لا يدري متى تُقْضى حاجته ، أو يجد ضالته فهذا يقصر أبداً حتى يعود إلى وطنه ؛ فقد ثبت عن ابن عمر أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر وكان في غزاة فأرتج – أطبق – عليهم الثلج فكان يقصر الصلاة . [أخرجه البيهقي بمعناه وإسناده حسن] . وعن أنس رضي الله عنه : (أَن أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ أَقَامُوا برامهرمز تِسْعَة أشهر يَقْصُرُون الصَّلاة) [رواه البيهقي بإسناد صحيح] . يقول ابن قدامة رحمه الله: «قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أنَّ للمسافر أن يقصر ما لم يُجْمِع- أي يعزم- إقامة وإن أتى عليه سنون» . [المغني (2/138)] .
3- السفراء والدبلوماسيون المقيمون بالسفارات في حكم المقيمين، وكذا الذين يعملون خارج بلادهم، أو يدرسون، وكذا مَنْ كانت له إقامتان في بلدين بحيث يقيم في هذه أحياناً وفي تلك أحياناً، فهؤلاء جميعاً يُتمّون الصلاة ولا يقصرونها .
4- السائقون لسيَّارات السفر والشاحنات والقطارات والطائرات مسافرون ما لم يصلوا إلى دار إقامتهم أو أوطانهم ، فإذا وصلوا فلا يشرع لهم القصر؛ لأنهم أصبحوا مقيمين .
* صلاة المسافر خلف المقيم والعكس :
1- صلاة المسافر خلف المقيم صحيحة، لكن يجب على المسافر أن يُتِمَّ الصلاة مثل إمامه، سواء أدرك جميع الصلاة، أو ركعة، أو أقل؛ لحديث موسى بن سلمة قَالَ : كُنَّا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ: إِنَّا إِذَا كُنَّا مَعَكُمْ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا، وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى رِحَالِنَا صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: تِلْكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ ﷺ . [رواه أحمد والبيهقي بإسناد حسن] .
الأولى : أن يغلب على ظنِّه أن الإمام مسافر ، وذلك برؤية متاع السفر معه كحقيبةٍ أو كِيسٍ به ثياب ونحو ذلك ، فحينئذٍ له أن ينوي القصر ، فإن قصر إمامه قصر معه ، وإن أتمَّ لزمه متابعته . فإن نوى الإتمام لزمه الإتمام سواء قصر إمامه أو أتمَّ ؛ اعتباراً بالنية .
الثانية : أن لا يغلب على ظنه أحد الأمرين – أنه مقيم أو مسافر - فحينئذٍ يلزمه الإتمام؛ لأن القصر لابد له من نِيَّة جازمة .
3- صلاة المقيم خلف المسافر صحيحة ويُتمُّ المقيم بعد سلام المسافر؛ فقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى لَهُمْ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَقُولُ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ. [رواه عبدالرزاق والبيهقي واللفظ له بإسناد صحيح] .
ثانياً : الجمع بين الصلاتين :
1- يجوز للمسافر أن يجمع بين صلاتي الظهر والعصر ، وبين صلاتي المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير، سواءً أكان سائراً أم نازلاً- يعني في البلد الذي سافر إليه -؛ والأدلة على ذلك كثيرة منها : حديث معاذٍ رضي الله عنه قال : (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله ﷺ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ يَجْمَعُ الصَّلاَةَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلاَةَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَلَّى المَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) [رواه مسلم] .
2- يُشْترط للجمع بين الصلاتين : الترتيب ، وذلك بأن يصلي الظهر أولاً عند جمع الظهر مع العصر ، ويصلي المغرب أولاً عند جمع المغرب مع العشاء ؛ لأنَّ الشَرْع جاء بترتيب الأوقات في الصلوات ، فوجب أن تكون كل صلاة في المحلِّ الذي رتَّبها الشارع فيه ، وقد قال النبي ﷺ : (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) [رواه البخاري] .
3- اشترط جمهور الفقهاء لصحة جمع التقديم شروطاً منها :
أ - نية الجمع : وذلك بأن ينوي جمع العصر مع الظهر ، أو العشاء مع المغرب ، ويستحب أن تكون هذه النية في أول الصلاة الأولى ، فإن أتى بها في أثنائها فلا بأس .
ب- الموالاة بين الصلاتين : وذلك بأن يصليهما متواليتين دون فصل طويل وإلا بطل الجمع.
ج- دوام السفر حال افتتاح الصلاة الأولى والفراغ منها وافتتاح الثانية ، فلو نوى الإقامة أثناء الصلاة الأولى مثلاً أو وصل إلى بلده في وقت الأولى ، فلا يجوز الجمع حينئذٍ ؛ لزوال سببه ، ويلزمه تأخير الثانية إلى وقتها .
4- وأما جمع التأخير فاشترطوا له : نية الجمع قبل خروج وقت الأولى ، وأن يدوم السفر إلى دخول وقت الثانية ، وقال بعضهم : إلى تمام الصلاتين .
5- السُّنَّة في الجمع بين الصلاتين : الاقتصار على أذان واحد والإقامة لكل واحدة من الصلاتين ، ففي حديث جابر رضي الله عنه (أنَّ النَّبيَّ ﷺ صَلَّى الظُّهرَ وَالعَصرَ بعَرَفَة جَمْعاً بأَذانٍ وَاحِدٍ وَإِقامَتَينِ، وَصَلَّى المَغْرِبَ وَالعِشاءَ بِمُزْدَلِفَةَ جَمْعاً بِأَذانٍ وَإِقامَتَينِ) [رواه مسلم].
* القيام واستقبال القبلة في صلاة الفريضة في السفر :
- صلاة الفريضة في السفر لا بد من النزول لها ، وأن يصلي قائماً، مستقبل القبلة،لحديث جابر رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ المَشْرِقِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ المَكْتُوبَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) [رواه البخاري] . إلا إذا عجز عن القيام أو استقبال القبلة أو عجز عنهما معاً فيصلي حيثما استطاع ؛لقول الله تعالى: )لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا( [البقرة: 286] . ولو صلى في الطائرة أو السفينة فيلزمه القيام واستقبال القبلة إن استطاع ذلك ، فإن عجز عن ذلك صلى حيثما استطاع؛ للآية السابقة.
* صلاة النافلة في السفر:
1- السُّنَّة ترك الرواتب في السفر إلا سنة الفجر والوتر ؛ لفعله ﷺ . أَمَّا ما عدا الرواتب كالضحى وقيام الليل وغير ذلك من مطلق التطوع فله أن يصلي منها ما شاء ؛ لما ثبت عنه ﷺ أنه صلى الضُّحى في بيت أم هانئ يوم فتح مكة . [رواه البخاري ومسلم] .
2- يصح التطوع على المركوب في السفر: مِنْ طائرة، وسيَّارة، وسفينة وغيرها من وسائل النقل ، سواءً كان قائماً أم قاعداً ، مستقبل القبلة أم غير مستقبلها ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءً صَلاةَ اللَّيْلِ إِلاَّ الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ) [رواه البخاري ومسلم] . لكن يستحب له أن يُكَبِّر تكبيرة الإحرام للنافلة وهو مستقبل القبلة، ثم بعد ذلك يصلي حيث توجهت به راحلته؛ لحديث أنس رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ كَانَ إِذَا سَافَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ) [رواه أبو داود بإسناد حسن] .
ثالثاً : صلاة الجمعة للمسافر :
صلاة الجمعة ليست واجبة على المسافر ويصلي الظهر بدلاً منها ؛ لأن النبي ﷺ وأصحابه لم يُنقل عنهم أنهم صلوا الجمعة في أسفارهم ؛ ففي حجة الوداع كان يوم عرفة يوم جمعة ، وثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ خطب الناس يوم عرفة ثم بعد الخطبة أذَّن بلالٌ ثم أقام، قال جابر: فصلى الظهر ولم يقل: صلى الجمعة . فإن صلى الجمعة وهو مسافر فصلاته صحيحة وتجزئه عن الظهر .
رابعاً : المسح على الخفين للمسافر :
يشرع للمسافر أن يمسح على الخفين والجوربين ثلاثة أيامٍ وليالهن بدءاً من الحَدَثِ بعد لبسهما؛ لحديث علي رضي الله عنه في المسح على الخفين قال: (جَعَلَ رَسُولُ الله ﷺ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ) [رواه مسلم] . بشرط أن يكون قد لبس الخفين أو الجوربين على طهارةٍ، وأن يكونا ساترين لمحل الفرض من القَدَم، وأن يكونا ثخينين بحيث يمكن متابعة المشي فيهما مسافة مناسبة، وألا يكون الجورب شفافاً بحيث يصف البشرة .
خامساً : الصيام في السفر :
رَخَّص الله عز وجل للمسافر في رمضان أن يُفطر ثم يقضي بعد انتهاء سفره فقال جل وعلا: )فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ( [البقرة: 184]. فإن صام ولا مشقة تلحقه بذلك فصومه صحيح ويجزيه ؛ لحديث أنس رضي الله عنه : (كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ وَلا المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ) [رواه البخاري ومسلم] . وأيضاً حديث عائشة رضي الله عنها (أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ). [رواه البخاري ومسلم] . بل الصوم في السفر في رمضان أفضل لمن قوي عليه ولم تلحقه مشقة ؛لأنه أسرع في إبراء الذِّمَّة . ولقوله تعالى: )وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونََ( [البقرة: 184].
* شروط الترخص بهذه الرخص في السفر:
يشترط للترخص بهذه الرَّخص السابقة (القصر، الجمع، عدم وجوب الجمعة، المسح على الخفين ثلاثة أيام، الفطر في رمضان) يُشْترط للترخّص بها شرطان :
الشرط الأول : أن يكون السفر مباحاً، كمن سافر للنزهة أو للتجارة ونحو ذلك ، أو سافر للعمرة أو الحج ونحوهما مما فيه طاعة وقربة إلى الله عز وجل . أما السفر للمعصية وانتهاك محارم الله عز وجل فلا يشرع فيه الترخّص بهذه الرخص عند أكثر الفقهاء؛ لأن هذه الرخص إنما شُرعت ؛ تخفيفاً على المسافر، ليستعين بها على تحصيل المصالح ، لا ليُتَوصَّل بها إلى معصية الله عز وجل .
الشرط الثاني : أن لا ينوي الإقامة في البلد الذي سافر إليه خمسة عشر يوماً فأكثر، فإن نوى الإقامة خمسة عشر يوماً فأكثر فلا يترخص بهذه الرُّخص .
* مِنْحَةٌ ومِنَّةٌ في السفر :
من فضل الله عز وجلَّ على المسافر أن الله عز وجل يُجْري له أجر الأعمال الصالحة التي كان يفعلها في حال إقامته، فقد قال النبي ﷺ: (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) [رواه البخاري] . فيا لها من نعمةٍ ما أجَلَّها وأعْظَمها.
* المسافر سفير لدينه وبلده:
ينبغي للمسافر أن يضع نصب عينيه أنه بمثابة السفير لدينه ووطنه، ومن ثم ينبغي عليه أن يحرص على التحلِّي والتَّجَمُّل بأخلاق الإسلام وآدابه الرفيعة العالية التي علمنا إياها رسولنا الكريم ﷺ لا سيما إذا كان في بلاد غير المسلمين، فلقد حدثنا التاريخ عن كثرة من دخل في الإسلام واعتنقه لمَّا رأوا أخلاق تجار المسلمين وأمانتهم وهم يجوبون البلاد بتجارتهم.
سادساً : آداب السفر :
هناك بعض الآداب التي ينبغي على المسافر أن يحرص عليها ، وأن يأتي بها إذا ما أراد أن يكون سفره سفراً مباركاً يُقرِّبه من الله عز وجل ، ومن هذه الآداب :
1) أن يستخير الله عز وجل في الوقت الذي سيسافر فيه ، والراحلة ، وجهة الطريق إن كثُرت الطرق، ويستشير في ذلك أهل الخبرة والصلاح.
2) أن يتوب إلى الله عز وجل من جميع المعاصي والذنوب ، ويَردَّ المظالم لأهلها ويتحلل منهم ، سواءً كانت عَرْضًا ، أو مالاً، أو غير ذلك ، ويقضي ما أمكنه من ديونهم ، ويَردَّ الودائع لأصحابها ، أو يستأذنهم في بقائها، ويكتب وصيته ويُشْهد عليها.
3) أن يحرص على أن تكون نفقته حلالاً خالصة من الشبهة، خاصة إذا كان السفر لعبادة كحج أو عمرة.
4) إذا كان السفر لحجٍ أو لعمرةٍ فعليه أن يتعلم كيفيتهما ، وإذا كان لتجارةٍ فعليه أن يتعلم ما يحتاج إليه من فقه البيوع (ما يصح منها وما لا يصح ، ما يَحلُّ منها وما يَحْرمُ).
5) أن يجتهد في اختيار الرفيق الصالح الذي يذكره بالله ، ويعينه على طاعة الله ، ويدلُّه على مواطن الرشاد ؛ قال النبي ﷺ: (لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِىٌّ) [رواه أبو داود والترمذي بإسناد حسن] .
6) أن يُوصي أهله بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين: )وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ الله...( [النساء: 131] .
7) أن يُودِّع أهله وأقاربه وأصدقاءه ، فيقول لهم : (أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ الَّذِي لا تَضِيعُ وَدَائِعُهُ) [رواه ابن ماجه بإسناد صحيح]، وأن يودعوه بأن يقولوا له: (نَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ) [رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح] . وكان ﷺ يقول لمن طلب منه أن يوصيه من المسافرين: (زَوَّدك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسَّر لك الخير حيثما كنت) [رواه الترمذي بإسناد صحيح] .
8) يستحب له أن يخرج للسفر يوم الخميس من أول النهار؛ لفعله ﷺ ، قال كعب بن مالك رضي الله عنه: (لَقَلَّمَا كَانَ رَسُولُ الله ﷺ يَخْرُجُ إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ إِلاِّ يَوْمَ الخَمِيسِ). [رواه البخاري] . ودعا ﷺ لأُمَّتِه بالبركة في أول النهار فقال: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا) [رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح].
9) يستحب له أن يدعو بدعاء السفر إذا ركب دابته، أو سيارته، أو الطائرة، أو غيرها من المركوبات، ودعاء السفر هو (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لـَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المَنْظَرِ، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ في المَالِ وَالأَهْلِ) [رواه مسلم].
10) يستحب له السير أثناء السفر في الليل وخاصة أوله؛ لقوله ﷺ : (عَلَيْكُمْ بِالدُّلْـجَةِ فَإِنَّ الأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ) [رواه أبو داود بإسناد صحيح] . والدُّلجة : السير بالليل .
11) يستحب له أن لا يسافر وحده بلا رُفْقَة؛ لقوله ﷺ: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ) [رواه البخاري] .
12) يكره له أن يستصحب كلباً في سفره ؛ لقوله ﷺ: (لاَ تَصْحَبُ المَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلاَ جَرَسٌ) [رواه مسلم] .
13) يستحب له الإكثار من الدعاء في السفر؛ فإنه موطن عظيم من مواطن إجابة الدعاء؛ لقوله ﷺ: (ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لاَ شَكَّ فِيهِنَّ دَعْوَةُ الْوَالِدِ وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ) [رواه أبو داود والترمذي بإسناد حسن] .
14) يستحب للمسافر أن يُكَبِّر إذا صَعِد، ويُسبِّح إذا هبط، ولا يرفع صوته بالتكبير؛ لقول جابر رضي الله عنهما: (كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا) [رواه البخاري] . ولحديث أبي موسي رضي الله عنه قال: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ) [رواه البخاري ومسلم واللفظ له] .
15) يستحب إذا نزل منزلاً في السفر أو غيره من المنازل أن يدعو بما ثبت عنه ﷺ وهو قول : (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) فإنه إذا قال ذلك لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك . [رواه مسلم] .
16) يجب عليه أن يبتعد عن جميع المعاصي: فلا يؤذي أحدًا بلسانه ولا بيده ، ولا يقع في الغيبة أو النميمة أو الكذب ، أو أَن يقول على الله ما لا يعلم ، وغير ذلك من أنواع المعاصي والسيئات .
17) الإحسان إلى الناس قولاً وفعلاً؛ لقول النبي ﷺ: (مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى) [رواه البخاري ومسلم واللفظ له] .
18) يستحب له أن يتعجل في العودة ولا يطيل المكث في السفر لغير حاجة ؛ لقوله ﷺ: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) [رواه البخاري ومسلم].
19) يستحب له أن يقول أثناء رجوعه من سفره ما ثبت عن النبي ﷺ (أنه كان إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الأَرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ) [رواه البخاري ومسلم] .
20) يكره له أن يطرق أهله - أي يأتيهم ليلاً- بل السنة أن يأتيهم في النهار، إلا أن يكونوا على علم بقدومه وهي في هذا الزمان سهلة بوسائل الاتصال والحمد لله.
21) إذا وصل إلى بلده فيُسنُّ له أن يبدأ بالمسجد القريب منه فيصلى ركعتين لحديث كعب بن مالك (أن النبي ﷺ كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ) [رواه البخاري ومسلم].
وختاماً : نسأل الله تعالى أن يجعل أسفارنا كلَّها في طاعته، وابتغاء مرضاته إنه سبحانه سميع قريب مجيب الدعاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وحدة البحث العلمي
بإدارة الإفتــاء