الشتاء... حكمٌ وأسرارٌ
إنّ الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيّئاتِ أعمالِنا، مَن يهده الله فلا مضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وآله وسلم ...
أمّا بعد: فإن لله تعالى في خلقه حكماً بليغة، وآياتٍ بديعة؛ كلّها تشهد لربوبيّته، وتدعو إلى تعظيمه وتوحيده، وإنّ في هذا الفصل فصلِ الشّتاء كثيراً من تلك الآيات، التي تستوجب علينا الوقوف عندها لنستجلي ما فيها من الحكم والأسرار، والعبر والعظات.
وأُولى تلك الآيات، الّتي هي نعمةٌ من نعم فاطر الأرض والسّموات: آيةُ المطر، ونعمةُ الغيث والقطْر؛ الّذي يحيى الله به البلاد، وينفع به العباد؛ قال عزّ وجلّ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت:39].
فالمطر آيةٌ من آيات الله سبحانه، وهو نعمة من نعمه على عباده؛ إذ هو مادّة حياتِهم وعُنصُر نمائهم، وسَبَب بقائِهم؛ مِنه يشرَبون ويسقون، ويحرُثون ويزرَعون، ويرتَوون ويأكلون؛ ولهذا أشاد الله به في كتابه، وذكره في سياق الامتنان على عباده، ودعاهم من خلاله إلى توحيده؛ فقال عزّ شأنه: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:21، 22].
وإنّ الواجب علينا تجاه هذه النّعمة أن نشكرها؛ حتى ننتفع بها، ولا نكفرها بنسبتها إلى غير الله تعالى من طبيعة أو غيرها، وننسى مانحها، ولنعلم بأنّ الله سبحانه قادرٌ أن يقلبها علينا عذاباً؛ كما عذّب بها غيرنا، ومن قبلنا، وفي التوجيه إلى شكر هذه النّعمة يقول الله جل وعلا: ﴿أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ﴾[المعارج:68-70]، ومعنى أجاجاً: مالحاً لا ينبت زرعاً، ولا يسقي إنساناً.
فاللهم لك الشكر على آلائك التي لا تعد ولا تحصى، اللهم لو شئت لجعلت ماءنا مالحاً أجاجاً، ولكن رحمتك أدركتنا فجعلته عذباً زلالاً؛ فلك الشكر لا نحصي ثناءً عليك؛ فما بنا من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك.
وكيف لا نشكر الله سبحانه وهو الّذي خصّنا بهذه النّعمة من بين كثير من خلقه، وإن في تصريف الأمطار إلى بعض الأمصار، وحبسها عن بعض الديار؛ لعبرة لأولي الأبصار، وعظة للعصاة الفجار؛ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً لّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً﴾ [الفرقان:48-50].
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ﴾: «أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب يمرّ على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى؛ فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقا، والتي وراءها لم يُنزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة، والحكمة القاطعة. قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: ليس عام بأكثر مطراً من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرءا هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ..﴾».
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التّفاعل مع هذه الآية وما يتبعها جملةُ أمور تدور كلُّها على توحيد الله وتعظيمه وذكره وشكره على نعمته؛ منها: ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكَانَ -تعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ. قَالَتْ: فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾)، وروى مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ. قَالَتْ: وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّىَ عَنْهُ). أي: ذهب عنه ما كان يجده من الخوف.
وهذا الفعل عباد الله! من النّبيّ صلى الله عليه وسلم لشدّة خشيته وخوفه من الله، وعدم أمنه من مكر الله؛ بخلاف ما عليه حالُنا نحن، وقد عاب الله قومًا أمنوا مكره؛ فقال سبحانه: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون﴾ [الأعراف:99].
وكما كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا أمطرت السحاب فرح وذهب الخوف عنه؛ فإنه كان يستقبل المطر بالكشف عن ثوبه حتّى يصيبه بللُه، وذلك مستحبٌّ عند أهل العلم في أوّل نزوله؛ لما ثبت في (صحيح مسلم) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ قَالَ فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى).
وكان إذا رأى المطر سأل الله تعالى أن يكون نافعاً، ودعا الله جل وعلا قائلاً –كما في (صحيح مسلم)-: (اللَّهُمَّ صَيِّبًا نافعًا).
ووجّه أصحابه –رضي الله عنهم أجمعين- أن يقولوا بعد نزول المطر وتوقّفه: (مطرنا بفضل الله ورحمته)؛ ففي الصحيحين عن زيد الجهني رضي الله عنه أنه قال: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ).
وإذا كثر المطر وخاف منه الضرر قال –كما في الصّحيحين-: (اللَّهُمَّ حَوْلَنَا وَلاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ). والآكام والظِّراب هي الجبال الصغيرة؛ خصَّ بقاء المطر في هذه الأماكن؛ لأنها أسهل في الزراعة.
وإذا تأخّر نزول المطر: استسقى الله عزّ وجلّ قائلاً –كما في سنن أبي داود-: (اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، مَرِيئًا، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ).
وآيةُ المطر قد تسبقها وتصحبها آيةٌ أخرى توجب تعظيم الله عزّ وجلّ والخوف منه وتقديسه، وتلكم هي آية الرّعد والبرق؛ التي قال فيها الله سبحانه:﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ [الرعد:12، 13]. أي: شديد القوة سبحانه.
وإنّ ممّا يشرع للمسلم تفاعلاً مع هذه الآية أن يسبّح الله سبحانه؛ كما يسبّحه الرّعد والملائكة، وغيرهم من المخلوقات العظيمة؛ فقد رواه البخاري في (الأدب المفرد) عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)، ثُمَّ يَقُولُ : (إِنَّ هَذَا لَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لأهْلِ الأرْضِ).
وفي فصل الشتاء تذكير بالدار الأخرى، وبزمهرير جهنّم وشدّة بردها، وذلك يوجب على العبد الاستعاذة بالله منها، والفرار من موجبات دخولها؛ ففي الصّحيحين عن أبي هريرة t عن النبي r قال: (اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعضاً؛ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ. فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ).
والمراد بالزمهرير شدة البرد, ولا إشكال من وجوده في النار ففيها طبقة زمهريرية؛ فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (يَستَغِيثُ أهلُ النَّارِ من الحَرِّ؛ فيُغاثُونَ برِيحٍ بارِدةٍ يصدَعُ العظامَ برُدها؛ فيَسألُون الحَرَّ، ويستَغِيثُون بحَرِّ جهنَّمَ).
فهذه النار تشتكي إلى خالقها؛ لما فيها من العذاب الأليم، وأنه قد أكل بعضها بعضا من شدّةِ حرِّ الجحيمِ؛ فكيف بشكوى من يكون بداخلها من المعذّبين؟! وكيف بمن حكم الله عليه بالخلود فيها أبد الآبدين؟!
وفي فصل الشّتاء غنيمةٌ للمتعبّدين؛ فلا ينبغي للعبد أن يكون عن مغنمه من الغافلين، ولا عن مربحه من اللاّهين، خاصّة وقد رغّب في اغتنامه سيّد النّبيين؛ فقال –كما ثبت في سنن الترمذي-: (الغَنِيمَةُ البَارِدَةُ: الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ)، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: (ألا أَدلُّكُم على الغَنِيمةِ البارِدةِ؟) فقالوا: بلى! فيقول: (الصِّيامُ في الشِّتاءِ، وقِيامُ ليلِ الشِّتاءِ).
وإنّما كان الشتاءُ غنيمةً باردةً؛ لأنّ المؤمن يحصل فيه على ثواب وفير بلا تعب كثير؛ إذ الصوم في الشتاء البارد لا يحس فيه الصائم بالعطش، ولا بألم الجوع لقصر النهار، وهكذا القيام يكون يسيراً لطول الليل في الشتاء؛ فيعطي العبدُ نفسَه حظّها من النوم، ثم يقوم بعد ذلك لعبادة الحيّ القيّوم؛ كما كان دأب السّلف الصّالحين من الصحابة والتّابعين رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين؛ حتّى كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا جاء الشّتاء يقول: (مرحباً بالشِّتاءِ تنزلُ فيه البركةُ, ويطولُ فيه الليلُ للقيامِ، ويقصُرُ فيه النَّهارُ للصِّيامِ)، وعن الحسن البصري رحمه الله قال: (نِعْمَ زمانُ المؤمنِ الشتاءُ؛ ليلُه طويلٌ يقومُه، ونهارُه قصيرٌ يصومُه).
فالشتاء بحقّ ربيع المؤمن كما يقولون؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الصّالحة، ليتزوّد منها بالتّجارة الرّابحة، ويتأهب بها للدّار الآخرة. وفّقني الله وإياكم لاغتنام هذه الأيام، في التّقرب إلى الملك العلاّم.
وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد، وعلى وآله وصحبه البررة الكرام.
بقلم/ نور الدين مسعي
الباحث بإدارة الإفتاء