رفعُ الملامِ عنِ المجتهدِين في الأحكامِ
الحمدُ للهِ حقّ حمدِهِ، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ؛ صلّى الله عليه وسلّم، وعلى آلِهِ، وصحبِهِ.
أمّا بعد: فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الواجبَ على المسلم التّمسّكُ بما جاءَهُ من ربّه من النُّور والهُدى؛ المتمثِّلِ في كتابِه U، وسنّةِ المصطفى r، وأنّ الواجبَ عليه الرّدُّ إلى هذينِ الأصلينِ العظيمينِ عند الاختلافِ والتّنازعِ في شيءٍ من مسائلِ العلمِ وأحكامِ الدّينِ؛ كما قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النّساء: 59].
ولكنْ لمّا كانت نصوصُ هذينِ الأصلينِ تختلفُ في دلالتِها على الأحكامِ بين النّصِّ والظاهرِ، والمبيّنِ والمجملِ، وغير ذلك من وجوه الدّلالاتِ، وكان المجتهدون من العلماءِ يختلفون في قوّةِ مداركِهم، ودقّةِ فهمِهم، وتمكّنِهم من آلةِ الاجتهادِ، فضلاً عن تفاوتِهم في الإحاطةِ بالوارِدِ من النّصوصِ في البابِ الواحدِ أو المسألةِ الواحدةِ: كان ولا بدّ من وقوعِ الخلافِ بينهم في المسائلِ والنّوازلِ التي يجتهدون في معرفةِ حكمِ اللهِ فيها، وكان ولا بدّ من التماسِ العذرِ لهم فيما أخطأوا فيه من اجتهاداتِهم، وعدمِ التّشنيعِ عليهم، ونسبتِهم إلى معارضةِ الأصلينِ أو أحدِهما في أقوالِهم؛ ذلك لأنّنا نعلم -يقيناً- أنّه ليس في العلماءِ الموثوقِ بعلمِهم وأمانتِهم ودينِهم من يتعمّد مخالفةَ ما دلَّ عليه كتابُ اللهِ، وسُنَّةُ رسولِهِ r.
ولهذا أثنى الله U على داود وسليمان-عليهما السّلام- لمّا اجتهدا واختلفا في قضيّة الحرث مع أنّ أحـدَهما مصيبٌ والآخرَ مخطئٌ؛ فقـال تـعـالى: ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 79]. قال الحسن البصريّ-رحمه الله- : « أثنى على هذا بعلمِه، وعذرَ هذا باجتهادِه »(1).
وقد بيّن النّبيُّ r أنّ المجتهدَ من العلماءِ يدورُ في اجتهادِهِ بين الأجرينِ والأجرِ؛ إنْ أصابَ فلهُ أجران: أجرُ اجتهادِهِ، وأجرُ إصابتِهِ، وإنْ أخطأَ فله أجرٌ على اجتهادِهِ، وهو معذورٌ في خطئِهِ؛ ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّه سمع رسولَ اللهِ r يقول: « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(2).
وذلك لأنّ المجتهدَ ليس مأموراً بإصابةِ الحقِّ، وإنّما هو مأمورٌ ببذلِ الوسعِ في طلبِ الحكمِ الشّرعيِّ؛ فإنْ أخطأه فلا إثمَ عليه؛ قال الخطابيُّ -رحمه الله-: « إنّما يُؤجرُ المخطِئُ على اجتهادِه في طلبِ الحقِّ؛ لأنّ اجتهادَه عبادةٌ، ولا يُؤجرُ على الخطأ؛ بل يُوضع عنه الإثمُ فقط»(3).
وهذا الحديثُ أصلٌ في أدبِ الاختلافِ، وتلمّسِ الأعذارِ للمخالفِ من المجتهدين؛ إذ إنّ الخلافَ الذي وقع منهم لم يكن عن قصدٍ ورغبةٍ، بل له أسبابٌ كثيرةٌ أدّتْ إلى تباينِ الآراءِ والاجتهاداتِ في المسائلِ والنّوازلِ المبحوثة، وتلكم الأسبابُ أشار إلى بعضِها شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -رحمه الله- في معرضِ حديثِه عن الأسبابِ الّتي دعتِ العلماءَ إلى مخالفةِ بعضِ النّصوصِ بقوله: « وجميعُ الأعذارِ ثلاثةُ أصنافٍ : أحدُها: عدمُ اعتقادِه أنّ النّبيَّ r قالَهُ. الثّاني: عدمُ اعتقادِه إرادةَ تلك المسألةِ بذلك القولِ. الثّالثُ: اعتقادُه أنّ ذلك الحكمَ منسوخٌ. وهذه الأعذارُ الثلاثةُ تتفرّعُ إلى أسبابٍ متعدّدةٍ »(4).
وبناءً على هذا فإنّ المجتهد في المسائلِ العلميّةِ لا يجوزُ عيبُه أو ذمُّهُ أو التّشنيعُ عليه، والأصلُ في ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: « قَالَ النَّبِيُّ r يَوْمَ الأَحْزَابِ: لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ؛ فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ؛ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ r؛ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ »(5).
ومن هنا تواترتْ كلماتُ العلماءِ والأئمّةِ على اختلافِ مذاهبهم في إعذارِ المخالفِ في مسائلِ الاجتهادِ، وتركِ التّشنيعِ عليه؛ فضلاً عن تضليلِه أو تبديعِه؛ فقال الذّهبيُّ -رحمه الله-: « ولو أنّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ - مَعَ صِحَّةِ إِيمَانِهِ، وَتَوَخِّيهِ لاتِّبَاعِ الحَقِّ - أَهدَرْناهُ، وَبَدَّعناهُ، لَقَلَّ مَنْ يَسلَمُ مِنَ الأَئِمَّةِ مَعَنا »(6).
وقال أيضاً: « ما زالَ العُلَماءُ يَخْتلِفُونَ، وَيَتَكَلَّم العالِمُ فِي العالِم باجْتِهَادِه، وَكُلٌّ مِنْهُم معذورٌ مَأْجُورٌ، وَمَنْ عَانَد أَوْ خَرَقَ الإِجْمَاعَ فَهُوَ مَأْزورٌ »(7).
وقال ابنُ القيّم -رحمه الله- : « ومن له علمٌ بالشّرعِ والواقعِ يعلمُ قطعاً أنّ الرجلَ الجليلَ الّذي له في الإسلامِ قدمٌ صالحٌ وآثارٌ حسنةٌ، وهو من الإسلامِ وأهلِه بمكانٍ، قد تكون منه الهفوةُ والزّلةُ هو فيها معذورٌ بل مأجورٌ لاجتهادِه؛ فلا يجوزُ أن يتّبعَ فيها، ولا يجوزُ أن تُهدرَ مكانتُه وإمامتُه ومنزلتُه في قلوبِ المسلمينَ »(8).
وقال الشّاطبيُّ-رحمه الله- عند الكلامِ عن زلّةِ العالِم: « لا ينبغي أن ينسبَ صاحبُها إلى التّقصيرِ ولا أن يشنّعَ عليه بها، ولا يُنتقصَ من أجلِها، أو يعتقدَ فيه الإقدامُ على المخالفةِ بحتاً؛ فإنّ هذا كلَّه خلافُ ما تقتضي رُتبتُه في الدّينِ »(9).
وقال ابن أبي العز الحنفيّ-رحمه الله- : « والقولُ قد يكون مخالفاً للنّصِّ، وقائلُه معذورٌ؛ فإنّ المخالفةَ بتأويلٍ لم يسلمْ منها أحدٌ من أهلِ العلمِ؛ وذلك التّأويلُ - وإنْ كان فاسداً- فصاحبُه مغفورٌ له؛ لحصولِه عنِ اجتهادِه »(10).
وينبغي أن يعلم أنّ الإعذارَ إنّما هو للعالمِ المجتهدِ لا لغيرِه من العوامِّ وأدعياءِ العلمِ الذين ينصبون أنفسَهم مفتينَ، ويغترونَ بما يحفظون من النّصوصِ، ثم يقودهم الغرورُ إلى مخالفةِ الفقهاءِ المجتهدين، والعلماءِ الرّبانيّين؛ فإنّ أولئك وإن زعمُوا الاجتهادَ فإنّه ليس لهم ذلك؛ لافتقارِهم لأدواتِه، وقد قال الخطّابيُّ -بعد كلامه السّابق في إثابةِ المجتهدِ المخطئِ على اجتهادِه-: « وهذا فيمن كان من المجتهدين جامعاً لآلةِ الاجتهادِ، عارفاً بالأصولِ، وبوجوهِ القياسِ؛ فأما من لم يكن محلًّا للاجتهادِ فهو متكلِّفٌ، ولا يعذرُ بالخطأ في الحكمِ؛ بل يخافُ عليه أعظمَ الوزرِ؛ بدليل حديث ابن بريدة عن أبيه عن النبي r قال : «القُضاةُ ثَلاثةٌ: واحدٌ في الجنّةِ، واثنانِ في النّار؛ أمّا الّذِي فِي الجَنّةِ فرَجلٌ عرفَ الحقَّ فقضَى بهِ. ورجلٌ عرفَ الحقَّ فجارَ فِي الحُكمِ، ورجلٌ قضَى للنّاسِ على جهلٍ فهُو في النّارِ» »(11).
ويشهدُ لهذا الّذي ذكره الخطّابيُّ: قصةُ الرّجلِ الّذي أصابتْهُ جنابةٌ في سفرٍ وكان قد شُجَّ في رأسِه؛ فسأل أصحابَه: هل يجدون له رُخصةً في التيّمُّمِ ؟ فقالوا: ما نجدُ لك رخصةً، وأنت تقدرُ على الماءِ؛ فاغتسل فماتَ؛ فأخبرَ بقصّتِهِ النّبيُّ r فقالَ: « قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ؛ أَلاَّ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»(12).
قال العينيُّ –رحمه الله- في ذكر فوائدِ هذا الحديثِ: « الأولى: ذمُّ الفتوى بغير علمٍ؛ ولهذا قد عابهم به- عليه السلام-، وألحقَ بهم الوعيدَ؛ بأنْ دعا عليهم، وجعلَهم في الإثمِ قَتَلَةً له»(13).
والاجتهادُ بغيرِ تأهُّلٍ كالفتوى بغير علمٍ يذمُّ صاحبُهُ؛ ولهذا يقولُ الشاطبيُّ -رحمه الله-: « الاجتهادُ الواقعُ في الشّريعةِ ضربان: أحدُهما: الاجتهادُ المعتبرُ شرعاً؛ وهو: الصادرُ عن أهلِه الّذين اضطّلعُوا بمعرفةِ ما يفتقرُ الاجتهادُ إليه. والثّاني: غيرُ المعتبر؛ وهو: الصادرُ عمّن ليس بعارفٍ بما يفتقرُ الاجتهادُ إليه؛ لأنّ حقيقتَه أنّه رأيٌ بمجرّدِ التّشهِي والأغراضِ، وخبطٌ في عَمايةٍ، واتباعٌ للهوى » (14).
والتّأكيدُ على مسألةِ إعذارِ المخالفِ لا يعني المنعَ من مناقشتِهِ، أو تخطئةَ رأيِهِ بأسلوبٍ علميٍّ، وأدبٍ عالٍ؛ نصحاً له، وقياماً بواجبِ الأمانةِ العلميّةِ في بيانِ الخطأ في كلامِهِ، وخاصّةً عند السّؤالِ عنه من العامّةِ؛ إذ إنّ ذلك يدخلُ في النّصيحةِ الّتي ورد الأمرُ بها في حديثِ تميمٍ الدّاريِّ t أنّ النّبيَّ r قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ ». قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: « لِلهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ »(15).
فلا تلازمَ بين الإعذارِ والسّكوت عن خطأ المخالفِ؛ ولهذا لمْ يزلِ العلماءُ يردُّ بعضُهم على بعضٍ في المسائلِ العلميّةِ، ويناقشُ بعضُهم بعضاً في المسائلِ الخلافيّةِ -دون أنْ يفسدَ ذلك للودِّ قضيّة، ودون أن تترتّبَ عليه فُرقةٌ أو عصبيّةٌ-؛ بل ألّفت في ذلك كتبٌ تعرفُ بـ(كتب الرّدودِ)؛ قال الذّهبيُّ-رحمه الله: «وَمَا زَالَ العُلَمَاءُ قَدِيماً وَحَدِيثاً يَرُدُّ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ فِي البَحْثِ، وَفِي التَّوَالِيفِ؛ وَبمثلِ ذَلِكَ يتفَقَّهُ العَالِمُ، وَتتبرهَنُ لَهُ المشكلاَتُ » (16).
ومن أجل هذا: أُلّفتْ كتبٌ في بيان آدابِ الرّدِّ والمناقشةِ؛ تعرف بـ(كتب آدابِ البحثِ والمناظرةِ)؛ وذلك حتّى ينضبط الرّدُّ بأصولِهِ، ويلتزمَ الرّادُّ بقواعدِهِ، وتحفظَ للمردودِ عليه مكانتُه وحرمتُه، ولا يخرجَ الرّدُّ بصاحبِه عن أدبِ العلمِ الواجبِ؛ فيقع في تجريحِ المخالفِ؛ أو التّشنيعِ عليه.
وفي سيرِ السّلف الصالحين من الصحابةِ y فمن بعدهم دررٌ من أخبارِ اختلافِهم، وردِّهم على بعضِهم البعض؛ مع رعايتِهم لأدبِ الاختلافِ، وحبِّهم الخيرَ للمخالفِ ورحمتِهم له، وحفظِهم لحرمتِه ورُتبتِه؛ فها هي أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها تردُّ وتستدركُ على عددٍ من الصحابة y في مسائلَ مختلفةٍ -بأسلوب راقٍ، وأدبٍ جمٍّ-؛ حتّى صنّف في ذلك بدرُ الدّين الزّركشيُّ-رحمه الله- كتاباً سمّاهُ: (الإجابةُ لإيرادِ ما استدرَكَته عائشةُ على الصّحابةِ).
ومن ذلك: ردُّها على ابن عمر رضي الله y في مسألةِ تعذيبِ الميّتِ ببكاءِ أهلِهِ عليهِ؛ فعن هشامِ بنِ عروةَ عن أبيه قال: « ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَتْ: رَحِمَ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ؛ إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللهُ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «أَنْتُمْ تَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ» »(17). وفي روايةٍ قالت: « غَفَرَ اللهُ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ! أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ؛ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللهِ r عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ: « إِنَّهُمْ لِيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا»»(18).
ومن ذلك أيضاً: ردُّها على ابنِ عمرَ رضي الله عنهما كذلك في مسألةِ التّطيّبِ عند الإحرامِ؛ فعن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال: « سَأَلْتُ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا؛ فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ (19) طِيبًا؛ لأَنْ أَطَّلِيَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ. فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها- فَأَخْبَرْتُهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا؛ لأَنْ أَطَّليَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَـا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ r عِنْدَ إِحْـرَامِهِ ثُمَّ طَافَ فيِ نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا»(20)، وفي لفظ: « يَـرْحَمُ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهُ r فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا »(21).
وردَّ أبيُّ بن كعبٍ على ابنِ مسعودٍ رضي الله عنهما قولَه في ليلةِ القدرِ؛ فعن زرِّ بن حُبيشٍ قال: « سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. فَقَالَ: رَحِمَهُ اللهُ! أَرَادَ أَنْ لاَ يَتَّكِلَ النَّاسُ؛ أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا في رَمَضَانَ وَأَنَّهَا في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ »(22). وفي روايةٍ قال: « يَغْفِرُ اللهُ لأبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ! لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي الْعَشْرَةِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أن لا يَتَّكِلَ النَّاسُ »(23).
وردَّ عبدُ اللهِ بنِ عمر على أنسٍ y حين ذُكر له أنّه يحدِّثُ أنّ رسول الله r لَبَّى بالعُمرةِ والحجِّ؛ فقال ابنُ عمرَ: « يرحمُ اللهُ أنساً، وَهِلَ-سَهَا وأخطأ- أنسٌ، وهَلْ خرجْنا مع رسولِ اللهِ r إلاَّ حجّاجاً؛ فلمّا قدمنا أمَرَنا أن نجعلَها عمرةً إلاَّ منْ كان معه هديٌ »(24).
وردَّ مجاهدٌ على طاوس-رحمهما الله تعالى- فتواه فيمن ترك رميَ حصاةٍ؛ فعن ابن أبي نجيح قال: سُئل طاوس عن رجلٍ ترك من رميِ الجمارِ حَصاةً؛ فقال: يُطعمُ لقمةً، وربّما قال: تمرةً؛ فقال مجاهد: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ألم يسمعْ ما قال سعدُ بن أبي وقّاص: إنّ سعداً قال: رجعنا من الحجّةِ مع رسولِ اللهِ r وبعضُنا يقولُ: رميتُ بسبعِ حصياتٍ، وبعضُنا يقولُ: رميتُ بستٍّ؛ فلم يعبْ بعضُنا على بعضٍ، وربما قال: فلم يعب هذا على هذا، ولا هذا على هذا » (25).
وروى العباسُ بنُ عبدِ العظيم العنبريُّ، قال: « كـنتُ عند أحمدَ بنِ حنبلٍ وجاءه عليُّ بنُ المدينيّ راكباً على دابّةٍ، قال: فتناظرا في الشّهادةِ -يعني بالجنّة للمبشّرين-، وارتفعتْ أصواتُهما حتّى خِفتُ أن يقعَ بينهما جَفاءٌ، وكـان أحمدُ يـرى الشهادةَ، وعليٌّ يَأبَى ويَـدفعٌ؛ فلمّا أراد عليٌّ الانصرافَ قام أحمدُ فأخذَ بركابِه » (26).
فهذا المنهجُ الأصيلُ الّذي كان عليه سلفُنا الصالحُ في الرّدِّ على المخالفِ في المسائلِ العلميّةِ، والتماسِ العذرِ له، وحسنِ الأدبِ في التّعاملِ معه، وتركِ التّشنيعِ عليهِ: هو الّذي يجبُ علينا أن نلتزمَ به في هذا الزمان وعلى الدَّوام؛ حتّى يترتّبَ على الرّدِّ آثارُه الطيّبةُ من الرّجوع إلى الحقِّ، والاجتماعِ عليهِ، وتُنفى عنها آثارُه السيّئةُ من الفرقةِ، والتّناكرِ الّذي لا داعيَ إليهِ.
والله أعلم، وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه، وسلّم.
بقلم / نور الدين مسعي
الباحث في إدارة الإفتاء
([1]) جزءٌ من أثرٍ جزم به البخاريُّ في « صحيحه » (كتاب الأحكام: باب متى يستوجب الرّجل القضاء؟)، أخرجه ابن عبدالبر في «جامع بيان العلم وفضله» (2/882) ، وابنُ حجر في « تغليق التعليق » (5/291).
([2]) أخرجه البخاري (6919)، ومسلم (1716).
([3]) «معالم السّنن» (4/149).
([4]) « رفع الملام عن الأئمّة الأعلام » (ص/9).
([5]) أخرجه البخاري (904)، ومسلم (1770).
([6]) « سير أعلام النّبلاء » (14/377).
([7]) « سير أعلام النّبلاء » (19/328).
([8]) « إعلام الموقّعين » (3/320).
([9]) « الموافقات » (4/170-171).
([10]) « الاتّباع » (ص/29).
([11]) «معالم السّنن» (4/149). والحديث أخرجه أبو داود (3575)، والترمذي (1322)، وابن ماجه (2315).
([12]) أخرجه أبو داود (336). وانظر: « رفع الملام » (ص/41).
([13]) « شرح أبي داود » (2 / 153).
([14]) « الموافقات » (4/167).
([16]) « سير أعلام النبلاء » (23 / 499).
([17]) أخرجه مسلم (2196).
([18]) أخرجه التّرمذي (1006)، وقال: « حديث حسن صحيح ». وإنكارُ عائشة لقولِ ابنِ عمر y كان بناءٍ على ما انتهى إلى علمها؛ وقولُ ابن عمر قد ثبت عنه وعن غيره من الصحابة -في الصحيحين وغيرهما- رفعُه إلى النبيّ r، وانظر توجيه العلماء، وبيانهم لمعناه في: « فتح الباري » لابن حجر (3/154-156).
([19]) يعني: تفورُ منّي رائحةُ الطّيبِ. وضبطه بعضهم بالحاء المهملة (ينضحُ)؛ وهما متقاربان في المعنى. انظر: «شرح مسلم» للنّوويّ (8/102).
([20]) أخرجه مسلم (3096).
([21]) أخرجه البخاري (264).
([22]) أخرجه الترمذي (3351)، وقال: « حديث حسن صحيح ».
([23]) أخرجه مسلم (2834).
([24]) أخرجه أحمد (2 / 79)، وإسناده صحيح.
([25]) أخرجه البيهقيُّ في « السّنن الكبرى » (5/149)، والضياءُ المقدسيُّ في « الأحاديث المختارة » (3 / 244)، واللفظ له.
([26]) أخرجه ابنُ عبد البر في « جامع بيان العلم وفضله » (2/ 968).