شهر يغفل الناس عنه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، والصّلاة والسّلام على سيد الأولين والآخرين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على هديهم إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ من أجلِّ نعم الله على العباد أن هيَّأ لهم سبل الطاعات، وجعل لهم مواسم تهلُّ فيها النفحات، وتحلُّ عليهم البركات؛ فتتهيأ نفوس المخلصين بعد اشتياق إلى الأنس بمناجاة الله الذي أحياهم ليدركوا فضله ورحمته.
ولما كان الإنسان في خضم هذه الدنيا وملهياتها يميل إلى الغفلة والنسيان ؛ فإن من الواجب على المؤمنين أن يُذكِّروا بعضهم بعضاً بأيام الله التي تتجلى فيها نعمه على العباد؛ ليقوموا بواجب شكره، وتحقيق عبوديته، قال تعالى: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ([إبراهيم:5].
وإن من أيام الله تعالى العظيمة التي يغفل عنها كثير من الناس -إلا من رحم الله- شهر عظيم، وضيف كريم؛ تتجلى فيه رحمة الله تعالى بعباده، فيهبهم من خزائن خيراته، ويجزل لهم فيه من عطياته.
إنّه شهر شعبان الذي عظمه سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى؛ حتى إنهم من شدة تعظيمهم له كانوا يصفونه بشهر القرّاء؛ لشدة ما كانوا يقبلون في على قراءة القرآن؛ فعن عمرو بن قيس المُلائي رحمه الله «كان إذا دخل شعبان أغلق حانوته، وتفرّغ لقراءة القرآن»، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال : «هذا شهر القراء». [لطائف المعارف 138].
ولقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بشهر شعبان اهتماماً عظيماً؛ فكان يصومه حتى إنه لم يكن لشهر أكثر صياماً منه لشهر شعبان؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ» [متفق عليه]، وفي زيادة عند مسلم: « ... وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ».
وقد لاحظ بعض الصحابة رضوان الله عليهم اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشهر؛ فأدركوا أن هذا الحرص النبوي فيه من الخير ما لم يطّلعوا عليه أو يدركوا كنهه؛ فما كان منهم -كما هي عادتهم- إلا أن سألوا عن سرِّ هذا الاهتمام النبوي بهذا الشهر؛ فعن أسامةَ بنِ زيدٍ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ اللهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قال: « ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» [رواه أحمد والنسائي].
فوقوع هذا الشهر بين شهرين عظيمين؛ هما رجب الحرام، ورمضان شهر الصيام، جعل الناس تغفل بتعظيمهما عن إدراك ما في شهر شعبان من الفضل وعظيم الأجر؛ فنبه النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بفعله ثم بقوله إلى أهميته وعظيمه مكانته عند الله سبحانه وتعالى.
بل إن في قوله عليه الصلاة والسلام : (يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان) «إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقاً أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس؛ فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم» [لطائف المعارف ص138].
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفضيلة -التي يجهلها الناس فغفلوا عن هذا الشهر-، وهي أن الأعمال ترفع إلى الله تعالى ليجزي ويثيب عليها؛ فجدير بالعبد أن يرفع عمله إلى الله وهو قائم على طاعته.
أرأيت لو أن رجلاً قيل له: إنك على موعد مع مسؤول ليستعرض أعمالك وإنجازاتك ويجزيك عليها، ألا تراه يبذل جهده ووسعه لتزيين أعماله وتجميلها، وإظهارها في أحسن صورة؛ استعداد لمثل هذا اللقاء؟! فما بالنا نغفل عن أعمالنا التي ستعرض على رب العالمين سبحانه وتعالى الذي لا يظلم عنده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء؟!
ومن تمام البيان النبوي لفضائل هذا الشهر العظيم ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من امتنان الله سبحانه وتعالى على عباده بمغفرة الذنوب في ليلة النصف من شهر شعبان؛ فعن أبي موسَى الأَشعرِيِّ عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» [رواه ابن ماجه].
فالشرك ذنب ليس بعده ذنب؛ لا يغفرُ الله جل جلاله لمن اقترفه ومات عليه؛ قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ(؛ فالمشرك ظالم شديد الظلم، مفترٍ أشد الافتراء؛ لأنه باقترافه هذا الذنب العظيم يريد أن يسلب من الله تعالى أخص حقوقه وهو توحيده وإفراده بالعبادة والطاعة.
وأمّا الشحناء والبغضاء؛ فما من داء تبتلى به الأمم أعظم من هذا الداء؛ يفرق جمعها، ويفت في عضدها، ويطمع فيها أعداءها؛ ومن عظيم خطرها بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المشاحن لا يقتصر حرمانه على هذا الزمن الفضيل، بل إنه محروم فيه وفي غيره؛ فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» [رواه مسلم].
فتأمل كم هو محروم هذا المشاحن! وكم حل به من الخسران حينما حُرم من فضل الله ورحمته في مثل هذه الأيام الفاضلة المباركة التي ربما لا يدركها إلا في يومه الذي يعيش فيه أو عامه الذي هو فيه !!
وقد وردت بعض الأحاديث التي تستثني من هذه الرحمة الربانية أولئك الذي عقُّوا والديهم وقطعوا أرحامهم؛ وهي وإن كانت لا تثبت سنداً؛ إلا أنها تصح معنىً؛ إذ العقوق وقطع الأرحام من أعظم المشاحنة والمصارمة.
فالواجب على المسلم أن يبادر إلى إدراك رحمة أرحم الراحمين، ونيل مغفرة ورضوان رب العالمين؛ فيصالح خصومه، ويفك نفسه من حبائل الشيطان ومكائده، بنبذ الشحناء والبغضاء؛ حتى لا يكون عند الله غافلاً ولا محروماً.
وفق الله الجميع لمحبته، والأنس بطاعته، ونسأله أن يطهر نفوسنا، ويؤلف بين قلوبنا، وينزع السخيمة من صدورنا، ويغفر لنا خطايانا، دقيقها وجليلها، سرها وعلانيتها، وصلى الله على نبينا وحبيبنا وقرة عيوننا محمد صلى الله عليه وسلم.
بقلــم/
د. أيمن محمد العمر
الباحث في إدارة الإفتاء