فقـه التّوقّـع
* مفهوم فقه التوقع : وهل نحن بحاجة إليه، أم إنه رجم بالغيب ؟
فقه التوقع: هو حسن الاستعداد للنازلة قبل وقوعها، أو الاستعداد لآثارها بعد وقوعها، باستشراف المشاهد التي يمكن أن تؤول إليها في المستقبل، وذلك بواسطة تبصرات ومقاربات عقلية ينجزها عقل الفقيه، المزكى بنور الوحي، المستند إلى شواهد الماضي وقرائن الأحوال الحاضرة، فيعمد عند النظر في الوقائع المستقبلية، أو الوقائع الحالية التي تترتب عليها آثار مستقبلية، يعمد بشفوف نظره إلى توقع الصورة التي ستؤول إليها الواقعة، ثم يرصد جملة المصالح والمفاسد المترتبة على تلك الصورة، ثم ينزل الأحكام المناسبة لها.
وبالجملة فإن فقه التوقع عبارة عن عملية حدس متقدمة، مبنية على معطيات موضوعية، وأقيسة ونظائر معتبرة، بحيث يجتنب المجتهد الوقوع تحت ضغط الظرف الراهن، ويتحاشى التفاؤل المفرط، و التشاؤم البالغ.
* حقيقة فقه التوقع وأهميته :
ليس فقه التوقع من قبيل الرجم بالغيب في شيء، بل هو عمليات عقلية متسلسلة، يبنيها الفقيه على أساس اقتراح نماذج صالحة للمحاكاة، ثم اختبارها وامتحان النتائج الحاصلة منها، ثم تعميم الحكم في أشباهها ونظائرها، مع الاستمرار في ملاءمة تلك النتائج مع أدلة الشريعة وأصولها ومقاصدها.
فحين استشرى بين الناس شرب الخمر في عهد الفاروق ، جمع الصحابة واستشارهم فكان مما قاله علي : إن المرء إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد الفرية ثمانون، فأرى أن يجلد ثمانين، كان في هذا مستشرفاً للواقع القادم، صانعاً للمستقبل، بحيث استبق انتشار التقاذف والتظالم بين الناس.
كما أن هذا الفن ليس من العلوم المستقلة، التي ينتظر منها أن توصلنا إلى نتائج نهائية، ولا يمكن للباحث أن يضع قواعد بالتنبؤ بالمستقبل، تضمن له تحقق ما تنبأ به، وإنما هي المقاربة، كيف وقد تفرَّد الرب سبحانه بالغيب، قال تعالى: )وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( [الأنعام (59)].
وعليه؛ فإن استشراف الإنسان لمستقبل أيامه ضروري لقادة الرأي، وساسة الشعوب، وأصحاب المصالح بعامة، وهو طبيعة تنزع إليها النفوس البشرية أبداً، كما يقرره ابن خلدون بقوله: «اعلم أن من خواص النفوس البشرية، التشوف إلى عواقب أمورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت، وخير وشر، سيّما الحوادث العامة ...، والتطلُّع إلى هذا طبيعةٌ، البشرُ مجبولون عليها» اهـ.
* بين فقه التوقع والفقه الافتراضي :
الفقه الافتراضي هو ذلك الفقه الذي امتازت به مدرسة أهل الرأي في مقابل مدرسة أهل الحديث في عصور الإسلام الأولى؛ فقد اشتهر عن أهل الرأي أنهم كانوا يفترضون صوراً لا وجود لها في الواقع، لكن يمكن وقوعها مستقبلاً، لتتنزل أحكامهم على وقائع مفترضة، فيستعدوا لها قبل وقوعها، وليتدرب الطلاب على التعاطي مع تلك الصور، في حين كان أهل الحديث يزجرون عن السؤال عما لم يقع، ولما كان أصحاب الأسئلة الافتراضية يبدؤون مسائلهم بقولهم: أرأيت لو كان كذا وكذا، فقد سماهم أهل الحديث بالأرأيتيين.
وعن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر: أُحَرِّجُ بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن، فإن الله بيَّن ما هو كائن، وذلك أن من سأل عما لم يقع فكأنه تعجل البلاء قبل وقوعه، فيكون مذموماً.
وهذا إذا كان الافتراض على سبيل التنطع والتكلف، فأما الافتراض الممكن وقوعه فلم يكن بد للناس منه، ولهذا كان حذيفة يسأل النبي عما لم يقع مخافة أن يدركه، كما ثبت في الصحيح.
وممن عرف بهذا النوع من الفقه الإمام أبو حنيفة «رحمه الله»، فإن قتادة السدوسي لما دخل الكوفة اجتمع إليه الناس، فقام أبو حنيفة وسأله عن مسألة مشكلة، فقال قتادة: «ويحك أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، قال: فلِمَ تسألني عما لم يقع؟ قال أبو حنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه». ذكره الخطيب في «تاريخ بغداد».
وقد ذهب بعض أهل الحديث إلى قبول هذا النوع من المسائل بشرط كونه في حيِّز الإمكان، بحيث لا يكون مستحيل الوقوع، وهذا كان موجوداً في فقه أهل المدينة، وهو ما نجده في المسائل التي أجاب عنها الإمام مالك وبعض تلاميذه في المدونة التي كتبها سحنون عن ابن القاسم عنه، وفيها أكثر من ستة آلاف مسألة.
وقد حفظ لنا التاريخ عن الفقهاء عدداً من المسائل التي كانت مستبعدة في عصرهم، ثم وقعت في الأزمنة المتأخرة؛ وذلك مثل قول الشافعية بأنه يجب على الحاج الوقوف بعرفة على الأرض، وليس لهوائها حكم قرارها في هذه المسألة عندهم، قالوا: «فلو طار فوقها، بأن ركب فوق طائر وطار به، أو ركب فوق السحاب ومر فوق عرفة لم يصح وقوفه، قالوا: وكذلك لو سعى أو طاف طائراً لم يصح»، وهذا قبل اكتشاف الطائرات والمروحيات التي يمكن أن تمر فوق أجواء المشاعر في هذا العصر.
ومثل ذلك - مع بعض الاختلاف - ما ذكره ابن تيمية في رده على غلاة المتصوفة الذين يدَّعون أن الجن تطير بهم من العراق إلى مكة، فكان في رده عليهم - على فرض صحة دعواهم - يقول: إنهم خالفوا الشرع بعدم الإحرام من الميقات حين مرورهم به أثناء الطيران، فكان يلزمهم أن يحرموا قبل تجاوز الميقات، فهذا يشبه مرور المحرم بالطائرة فوق المواقيت.
ومن الغرائب التي تشبه اكتشاف التلفاز في هذا العصر، ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «من عجائب الدنيا مرآه كانت معلقة بمنارة الإسكندرية ، فكان الإنسان يجلس تحتها فيرى من بقسطنطينية وبينهما عرض البحر»، إلى آخر ذلك من غرائب النظائر.
والفقه الافتراضي قريب من فقه التوقع، وإن كان الافتراضي يشتغل بافتراض الصور التي لم تقع بعد، في حين أن فقه التوقع يعالج مسائل واقعة، من جهة النظر إلى آثارها ونتائجها المستقبلية.
فالبحث في حكمٍ يتعلق بشيء متخيل لا وجود له فيما يراه الناس، مثل سمكة تمشي على اليابسة، هذا فقه افتراضي. أما البحث المتعلق بمنتج تقني وحضاري نزل إلى الأسواق، يمكن أن تكون له آثار إيجابية أو سلبية على حياة الناس، وإمعان النظر في حكمه بناء على استشراف آثاره في الواقع والمتوقع ؛ فهذا يكون من قبيل فقه التوقع، وهذا الأخير هو الذي يسميه العلامة الشاطبي في كتابه "الموافقات": مآلات الأفعال، وهو يأتي في مقابلة: علم الحال، أو علم الحاضر، فهاهنا علمان: علم بالحال وعلم بالمآل، فالعلم بالحال التي عليها المكلف: فرض عين، فعلى كل واحد أن يعرف الأحكام المتلعقة بحاله، أما العلم بالمآل فهو من الفروض الكفائية، التي من شأن المجتهدين النظر فيها.
* طرق الاستنباط التي يمكن استخدامها في فقه التوقع :
هناك طرق عديدة يسترشد بها الفقيه على الأحداث والنتائج المستقبلية، وتكون من باب الظن الراجح، وذلك مثل: العمل بقرائن الأحوال، والاستدلال بالأمور الظاهرة على ما خفي، وتتبع السنن الكونية، وعادات الاجتماع البشري، وهذه كلها لها أحكام لا تكاد تنخرم في العادة، لكن الشأن في حسن إدارة المعرفة بها، وقد قرر ابن خلدون في مقدمته كثيراً من القواعد المعينة على توقع الحوادث واستشراف المستقبل، والإشراف على نهوض الدول وانخرامها.
كما أن ثمة تقنيات فكرية ومسالك عقلية يستعملها الفقيه في الإلحاقات الفقهية، ورسم الحكم الفقهي المناسب لكل صورة متوقعة في المستقبل.
ومن تلك التقنيات: مراعاة المتغيرات، فإذا أرادوا رسم مشهد مستقبلي (سيناريو) معين، حددوا المتغيرات الواردة في كل مشهد، ثم وضعوا الاحتمالات الممكنة، ووضعوا حلاً فقهياً لكل مشهد.
مثال ذلك: ما ذكروه في ميراث الحمل، وأنه إذا مات ميت عن حمل، هو ولد للميت، فإنه يحتمل أن يكون ذكراً أو أنثى، أو يكون توأماً، فيضعون حكماً مناسباً لكل احتمال، فهنا تجد أنهم حددوا المتغيرات والثوابت، وتوقعوا الصور الممكنة.
ومن تلك التقنيات العقلية: ملاحظة الغالب والنادر، فيلحقون الصور المحتملة بما يقع غالباً، وقد يلحق الحكم بالنادر في صور أخرى، وهي صور استثنيت بالشرع أو بالمصلحة المعقولة.
مثال ذلك: عقد الصلح مع الدولة الكافرة، مع أن الغالب استمرار الكفار على الكفر، وموتهم عليه بعد الاستمرار، ومع أن دخولهم في الإسلام ليس غالباً في العادة، ومع هذا فقد ألغى الشارع حكم هذا الغالب، وأثبت حكم النادر وهو توقع إسلام بعضهم، فعقد الجزية والصلح والهدنة والمسالمة لذلك التوقع النادر، كما أشار إلى بعض ذلك العلامة القرافي.
ومن تلك المسالك والأدلة: الدليل المسمى سد الذرائع، وهو منع التذرع إلى الأعمال المحرمة بالطرق المباحة، بالإضافة إلى فتح الذرائع كذلك، وفتح الذريعة هو أن يكون الفعل المباح أو المشتبه وسيلة لتحقيق الخير للناس، بحيث يفضي إلى مصلحة راجحة، فيكون مطلوباً شرعاً، كما في إباحة النظر إلى المرأة الأجنبية إذا كان قد عزم على خطبتها، فالشريعة عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها كما قرره الأئمة، وهذا مبناه على التوقع الرشيد، الذي يقيس درجة الإفضاء بطريقة المقاربة، ويأخذ بالمصلحة الراجحة ويتغاضى عن المفسدة المرجوحة، رفقاً بالمكلفين.
وقد اعتنى الفقهاء بالقواعد الضابطة للنظر المصلحي، ووضعوا لذلك معايير حاكمة، ومؤشرات لقياس تلك المعايير، وسلكوا في ذلك مناهج موضوعية محايدة.
وثمة مسالك للتوقع لا يتقنها كل أحد، بل هي من علوم الخواص المعروفين بالفراسة وجودة الحدس والقدرة على الربط والاستنتاج، ومثل ذلك القيافة: وهي الاستدلال بالأثر على النسب ومكان السير، وكذلك تعبير الرؤى والمنامات، وهذا من العلوم الدينية، التي مبناها على المقايسات كقياس الشبه، وأخص منها كلها: الإلهام، وهو لا يقع إلا للقليل من الناس، ومثل القدرة على صناعة الخيال العلمي، وهذا من العلوم الدنيوية.
وبالطبع فإن لهذا التوقع حدوداً لا يتجاوزها، وتجاوز تلك الحدود يفضي إلى نتائج خاطئة، كما لو بنى حكمه على ما يخالف السنن الكونية الجارية، ومن ذلك ما ذهب إليه بعض فقهاء الحنفية من أن الرجل إذا عقد على امرأة، وهو بأقصى المغرب، وهي بأقصى المشرق، ثم جاءت بولد، فإن الولد ينسب إليه، واحتجوا بالحديث الصحيح: «الولد للفراش»، فهذا الفهم للحديث مخالف للسنن الكونية الجارية ؛ ذلك أن مورده فيما لو حصل الدخول وكان ممكناً، فأما في الحال المذكورة فلا يمكن أن تعلق الزوجة منه بولد.
* الشروط التي ينبغي توفرها في المشتغل بفقه التوقع :
بما أن عملية التوقع مبناها على مقاربة المستقبل بالتحليل والاستنباط، فإن القيام بهذا النوع يستلزم قدراً زائداً على حفظ الفروع الفقهية والمسائل الجزئية؛ فمن الضروري أن يتوفر الفقيه على ملكة الفهم والتصور الصائب للسنن الكونية، ومعرفة طبائع الاجتماع البشري، والقدرة على التحليل والتركيب، والمقايسة والتمثيل، وامتحان الفروض الممكنة، بحيث يتمكن من قراءة سلسلة الوقائع بطريقة صحيحة، خالية من المبالغة والتبسيط.
ولا يكفي لهذا النوع من العلم أن يكون عارفاً بالأقيسة الفقهية المعتادة في المجال الفروعي، فهذه وحدها غير كافية، بل قد ذكر ابن خلدون أن الإيغال في القياسات الفقهية الفرعية قد تحجب نظر الفقيه عن التبصر بالأحداث والوقائع الحالية والمستقبلية، ولهذا السبب يخفق بعض فقهاء الفروع عند دخولهم المعترك السياسي العملي، في حين سجلت نجاحات ممتازة للفقيه المتزود بأدوات النظر الأصولي والفروعي، ومن يقرأ سيرة ابن تيمية رحمه الله ويتأمل نتاجه المعرفي يوقن أنه كان يتسامى فوق بعض الاستدلالات والقواعد الشائعة، ويستأنف في بعض الوقائع نظراً مناسباً لائقاً بتلك الوقائع، ومثله في ذلك العز بن عبد السلام رحمه الله، فإنه حين عزم جيش التتار الرهيب على غزو مصر، قام الشيخ يقوي نفوس الناس والأمراء، وقال لأهل مصر ولسيف الدين قطز: « اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر»، وكذلك حين أقسم ابن تيمية للأمراء في وقعة شقحب بأنهم منصورون في مناجزتهم للتتار، وكان يتنقل بين العساكر الإسلامية ويتحدث بلغة الواثق الذي لا يتردد ولا يتلعثم، فقالوا له: قل إن شاء الله، فقال: «إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً»، وكانوا في ذلك قارئين جيدين لسنن الاجتماع البشري، مستضيئين فيه بالآيات القرآنية الدالة على سنن الله في كونه وخلقه، من خذلان الظلمة ونصر المظلومين، مثل قوله تعالى: )وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( [سورة القصص (5)]، وقوله تعالى: )ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( [سورة الحـج (60)]. هذه نماذج من فقهاء راسخين، نجحوا في ارتفاق الكون، وارتياد المستقبل بشفوف النظر المزكى بنور الآيات والسنن.
* وأخيراً : فإن فقه التوقع يتطلب من الفقيه أن يسمو بنظره فوق الزمان، ويتحرر من علائق المكان، ويتخلى عن حكم الحاضر، ويشرف على المستقبل، ومن الصعب جداً على العقل البشري أن يعيش في زمانٍ غير زمانه الذي عايش أحداثه، واستوعب ظروفه، وتعاطى مع أدواته.
ومن الطبيعي أنه في حال غياب العلماء المؤهلين سيتمهد الطريق لدخول أنصاف المتعلمين، الذين يقولون ما لا يعلمون، ويفسدون أكثر مما يصلحون، وهذا في الأزمنة التي يختلس فيها العلم من الناس كما في حديث زياد بن لبيد، بحيث يظنون أنهم يعلمون، والحال أنهم جاهلون، وقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو: « إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
بقلـــم /
الدكتور خالد عبد الله المزيني (بتصرف)
أستاذ الفقه بقسم الدراسات الإسلامية والعربية
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن