قاعــدة
«لا يُنْكَرُ تغيّرُ الأحكامِ بتغيُّرِ الأزمانِ»
منَّ اللهُ تعالى على أهلِ هذِهِ الملّةِ السّمحاءِ بشريعةٍ محكمةٍ غرّاء؛ صالحةٍ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، فلا تنفكُّ حادثةٌ عن حكمٍ لله تعالى فيها، ولا نازلةٌ إلا ويجد الفقهاءُ في نصوصِ الشّريعةِ ومقاصدِها ما يدلُّ عليها ويبيِّنها، ولا تغيّر حالٌ أوِ ارْتُقِبَ في مسألة مَّا مآلٌ إلاّ اعتبرَتْهُ الشّريعة وَفْقَ الأدلّة الشّرعيّة، والمصالحِ المرعيّة.
ولكنْ ما قُطِعَ بالشّرعِ ثبوتُهُ، أو كان على غلبة الظَّنِّ حكمًا شرعيًّا؛ فإنَّهُ لا يتغيّر ولا يتبدّل، وهي جملة الأحكام الشّرعيّة الثّابتة بالكتاب والسُّنَّة، وعليه؛ فإنّ الواجبَ عند تناول قاعدة «تغيُّر الأحكامِ بتغيُّرِ الأزمان» بالبيان والاستدلال: الإشارةُ إلى أنّ المقصود بها تغيّرُ الفتوى بتغيّر الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنّيّات، والعوائد، وهذا ما قصَدَهُ العلماءُ ورجّحوه، وذلك أنّ الشّريعة لا تدور مَعَ دَوَرانِ شهواتِ النّاس واحتياجاتِهم المحضةِ، وإنّما تتجدّد بتجدّدِ النّظرِ في النّصوص الشّرعيّة والاستنباطِ منها.
وكذلك؛ فليس المقصودُ بتغيّر الزّمان مثلاً؛ أن يُجْعَلَ ذلك مسوِّغًا وحيدًا لتغيّر الفتوى، - وإن كان سببًا من الأسباب الدّاعية إلى النّظر في مدارك الأحكام -؛ بل الواجبُ ربطُها بالأصول الشّرعيّة، والمقاصد العامّة؛ فإنْ تحقّق - بَعدَ النّظر في مدارك الأحكام - الموجِبُ للتّغيير؛ غيَّر المفتي فتواه مستندًا في ذلك إلى الدّليل الشّرعيّ الثّابت.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: «فاعلم أنّ ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد؛ فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب؛ لأنّ الشّرع موضوع على أنّه دائم أبدي لو فُرض بقاء الدّنيا من غير نهاية، والتّكليف كذلك؛ لم يحتج في الشّرع على مزيد، وإنّما معنى الاختلاف أنّ العوائد إذا اختلفت رَجَعَت كلُّ عادةٍ إلى أصلٍ شرعيٍّ يحكم به عليها؛ كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التّكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف. فسقوط التّكليف قبل البلوغ، ثمّ ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنّما وقع الاختلاف في العوائد والشّواهد»(1).
ومن هنا نفهم أنّ تعبير بعض العلماء في صَوْغِ هذه القاعدة وسَبْكها بقولِهِ: «لا يُنْكَرُ تغيّرُ الأحكامِ بتغيُّرِ الأزمانِ»(2) هكذا على إطلاقِهِ؛ لا ينسجم مَعَ مَا قرّرناه آنفًا من كون التّغيير الحاصل هنا هو في الفتوى، وليس في الحكم الشرعيِّ؛ لأنّ الحكمَ ثابتٌ لا يتغيّر، وإنّما الذي يتغيّر هو الفتوى به حسب المقتضى الشّرعي.
وقد عَقَدَ الإمامُ ابن القيم لهذه القاعدة فصلاً مهمّاً؛ فقال: «فصلٌ في تغيّر الفتوى واختلافِها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنّيّات والعوائد».
ثمّ قال مبينًّا أهميّتَها: «هذا فصل عظيم النّفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلطٌ عظيم على الشّريعة؛ أوجب من الحرج، والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه؛ ما يُعلم أنّ الشريعة الباهرة الّتي في أعلى رُتَبِ المصالح لا تأتي به، فإنّ الشّريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالحُ كلُّها، وحِكمةٌ كلُّها، فكلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرّحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبَث؛ فليست من الشّريعة، وإن أُدخلت فيها بالتّأويل، فالشّريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمتُه بين خلقه، وظلُّه في أرضه، وحكمتُه الدالّة عليه وعلى صدق رسوله r»(3).
* وأمّا المفهومُ المعتبر لِتغيّر الفتوى؛ فلا بد أن يعلم أنه لا يتمّ إلاّ بعد أن تتّحد الصّورة في المسألة عينِها، وإنِ اختلف المحلُّ أو الحال، وذلك بتوفر الشّروط وانتفاء الموانع، فإنِ اختلَّ شرطٌ، أو وُجد مانعٌ فلا اتّحاد، وبالتالي؛ فإنّ اختلاف الحكم وتغيير الفتوى يكون عندها لصورة أخرى غير الّتي حُكِمَ عليها أوّلاً.
ومثال ذلك: السّارق من الحرز والسّارق من غير الحرز؛ فإنّ اختلافَ الفتوى هنا لا يعتبر من قبيل ما تكلم عنه؛ وذلك لاختلال الشّرط الشّرعيِّ المعتبَر لِقطعِ اليد؛ وهو التّعدّي على حرزِ الغير بالسّرقة والنّهب.
وكذلك القول فيما لو اختلف النّاظر (أي: المفتي أو المجتهد) في المسألة، وإنِ اتّحدت المسألة، وتوفّرت الشّروط، وانتفت الموانع، وذلك أنّ النّظر فيها من قِبَلِ مجتهدٍ آخرَ يخرجها عن المفهوم المعتبَر لتغيّر الفتوى.
فإذا تحقّق اللازم لاعتبار «تغيّر الفتوى» بمفهومها السّابق؛ فليعلم أنّ الشّريعة إنّما أتَتْ لجلْبِ المصالح وتكميلها، ودرءِ المفاسد وتقليلها، وبالتّالي؛ فإنّ النّاظر في مصالح النّاس ومعاشِهم لا بدّ أن يراعيَ ما سبق؛ وإنْ قادَهُ اجتهادُه إلى تغيير فتواه؛ لاختلافِ الزّمان أو المكان أو الحال أو العادة والعرف.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «الأحكام نوعان: نوعٌ لا يتغيّر عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة والأمكنة ولا اجتهاد الأئمّة، كوجوب الواجباتِ وتحريم المحرّمات والحدود المقدّرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه. والنّوع الثّاني: ما يتغيّر فيها بحسب اقتضاءِ المصلحة»(4).
ولمّا ظَهَر بعضُ مَن يرى إطلاقَ العمل بمنطوق القاعدة ومفهومها دون ضوابطَ تضبطُها، أو أصولٍ تأصِّلُها؛ كان لا بدّ من بيان ذلك والإشارة إليه؛ فنقول:
إنّ من ضوابطِ العمل بقاعدةِ «تغيّر الفتوى بتغيّر الزّمان» ما يلي:-
الضّابط الأوّل: وجوب اعتقاد أنّ الذي يجب أن يتغيّر هو الفتوى المتعلقة بتغيّر الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وأمّا الأحكام الشّرعية المستندة إلى النّصوص فإنّها ثابتة لا تتغيّر، فيكون مستندُ تغيّر الفتوى: الأصولَ الشّرعيّة، والمصالح المرعيّة في الدِّين.
الضّابط الثّاني: ألا يتمّ ذلك إلاّ بعد أن تتّحد الصّورة في المسألة عينِها، وإن اختلف المحلُّ أو الحال، وذلك بتوفر الشّروط وانتفاء الموانع، واتّحاد المفتي؛ فإنِ اختلَّ شرطٌ، أو وُجد مانعٌ، أو تعدّد المجتهدون في النّظر إلى مسألة معينة؛ فلا إذن.
الضّابط الثّالث: ألاّ يكون التّغيّر في الفتوى ناتجًا عن داعيةِ الهوى والتّشهِّي، واستحسان العبادِ، وإنّما الواجبُ جعْلُ التّغيّر المتعلّق بالزّمان والمكان مثلاً سببًا يدعو المجتهدَ للنَّظر في أصول الشّرع ومقاصدِه.
الضّابط الرّابع: ألاّ ينازِع في أمر الفتوى وتغييرها غيرُ أهلها، وأهلُها هم علماءُ الشّريعة، والمجتهدون من هذه الأمّة.
الضّابط الخامس: صحّة النّظر والاستدلال، وفهم الواقع والمآل، وتنزيل الحكم على الصّورة المستفتى عنها بعد التّأكد من سلامة الواقع المتغيِّر.
ومن الصّور التي نَصَّ عليها الفقهاءُ أنَّها تنطبق عليها الضّوابطُ الشّرعيّة ما يلي:-
1- ما رُوي مِن آثار عن عمر وعثمان رضي الله عنهما: «فقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدمَ تغريب الزّاني البكر؛ خوفًا من فتنة المحدودِ والتحاقِهِ بدارِ الكفْرِ؛ لأنّ إيمان النّاس يضعف مع الزَّمن»(5).
وقد أمر عثمان رضي الله عنه بالتقاطِ ضالّةِ الإبلِ وبيعِها وحفظِ ثمنِها لصاحبِها؛ لما رأى من تغيّر الأخلاق وفساد الذِّمم مع ورود النَّهي عن ذلك(6).
2- قضاء الفقهاءِ بتضمينِ الصُّنّاع، وذلك أنّ النّجار والحدّاد والخيّاط مثلاً لا يضمنون في الشّرع إلا بالتّعدّي والتّفريطِ بما في أيديهم من مصالحِ النّاس، ولكن لمّا فَسَدَتِ الذِّمم وخَرِبت رأى الصّحابة والفقهاءُ ضمانَهم؛ محافظةً على أموال النّاس.
وصلّى اللهُ وسلّم على سيّدِنا محمّد وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
محمود محمد الكبش
الباحث الشرعي بوحدة البحث العلمي