لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله جلّ شأنه، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده ؛ محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
«لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا» كلمات نبوية مباركة تحوي- كما هو الشأن دائماً- الكثير من المعاني والإشارات، وتشهد لها الشواهد والوقائع والدلالات، ومفهومها واضح كمنطوقها: أنه لا ينبغي لعاقلٍ مُوَفَّق أن يحتقر شيئاً من المعروف ولو كان في ظنّه صغيراً، أو حقيراً ؛ فإنه لا يدري أيّ عملٍ سيقع موقع القبول والرضا، أيّ عمل سيرتفع به، أي عمل سيبلغ به؛ إذْ القبول من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله؛ فرُبَّ عمل ظنَّه العبد صغيراً تافهاً لا يرتفع به، فإذ به قد أوجب الله له به الجنان، وأعتق رقبته به من النيران، فكان فيه فوزه وسعادته، يقول ابن المبارك رحمه الله: (رُبَّ عمل صغير تُعظِّمه النيّة، ورُبَّ عمل كبير تُصغِّره النيّة)(1)، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر)(2).
والشواهد على ذلك كثيرة، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أعمالٍ لا تُعَدّ شيئاً في نظر الكثيرين، بل ربما احتقرها البعض؛ لصغرها، لكنّها لمّا وقعت في الميزان كانت كالجبال الرواسي فأوجبت لأصحابها القبول والرضوان، والنعيم في الجنان، ومن ذلك:
ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: « جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ الله قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ»(3).
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي بردة قال: « لَمَّا حَضَرَ أَبَا مُوسَى الْوَفَاةُ، قَالَ: يَا بَنِيَّ اذْكُرُوا صَاحِبَ الرَّغِيفِ, قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ أُرَاهُ قَالَ: سَبْعِينَ سَنَةً, لا يَنْزِلُ إِلاَّ فِي يَوْمِ أَحَدٍ, قَالَ: فَنَزَلَ فِي يَوْمِ أَحَدٍ, قَالَ: فَشَبَّهَ أَوْ شَبَّ الشَّيْطَانُ فِي عَيْنِهِ امْرَأَةً, فَكَانَ مَعَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَ لَيَالٍ, قَالَ: ثُمَّ كُشِفَ عَنِ الرَّجُلِ غِطَاؤُهُ فَخَرَجَ تَائِبًا, فَكَانَ كُلَّمَا خَطَا خُطْوَةً صَلَّى وَسَجَدَ , قَالَ: فَآوَاهُ اللَّيْلُ إِلَى مَكَانٍ عَلَيْهِ اثْنَا عَشَرَ مِسْكِينًا , فَأَدْرَكَه الإِعْيَاءُ فَرَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ, وَكَانَ ثَمَّ رَاهِبٌ يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ كُلَّ لَيْلَةٍ بِأَرْغِفَةٍ , فَيُعْطِي كُلَّ إِنْسَانٍ رَغِيفًا, فَجَاءَ صَاحِبُ الرَّغِيفِ فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ رَغِيفًا, وَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي خَرَجَ تَائِبًا, فَظَنَّ أَنَّهُ مِسْكِينٌ فَأَعْطَاهُ رَغِيفًا , فَقَالَ الْمَتْرُوكُ لِصَاحِبِ الرَّغِيفِ: مَا لَكَ , لَمْ تُعْطِنِي رَغِيفِي , مَا كَانَ لَكَ عَنْهُ غِنًى , قَالَ: تَرَانِي أُمْسِكُهُ عَنْكَ , سَلْ هَلْ أَعْطَيْتُ أَحَدًا مِنْكُمْ رَغِيفَيْنِ , قَالُوا: لا , قَالَ: إِنِّي أَمْسِكُ عَنْكَ، وَالله لا أُعْطِيكَ شَيْئًا اللَّيْلَةَ , قَالَ: فَعَمَدَ التَّائِبُ إِلَى الرَّغِيفِ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَيْهِ, فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي تُرِكَ، فَأَصْبَحَ التَّائِبُ مَيِّتًا, قَالَ: فَوُزِنَتِ السَّبْعُونَ سَنَةً بِالسَّبْعِ اللَّيَالِي فَلَمْ تَزِنْ , قَالَ: فَوُزِنَ الرَّغِيفُ بِالسَّبْعِ اللَّيَالِي , قَالَ: فَرَجَحَ الرَّغِيفُ , فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا بَنِيَّ اذْكُرُوا صَاحِبَ الرَّغِيفِ »(4).
وروى أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ رَجُلاً لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ؛ فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ؛ لَعَلَّ الله يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ قَالَ: لا، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ لِي غُلامٌ وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا بَعَثْتُهُ يَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ؛ لَعَلَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَتَجَاوَزُ عَنَّا. قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ»(5).
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ؛ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي. فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا يَا رَسُولَ الله: وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»(6).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ»(7).
ومعلومٌ حديث الرجل الذي كان يصلي بأصحابه، فكان يفتتح – بعد الفاتحة – بـ (ِقُلْ هُوَ الله أَحَدٌ)حتى يَفْرُغ منها، ثمَّ يقرأُ بسورةٍ أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة ، فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قال: إني أُحِبُّها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ حُبَّهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ »(8).
وذكر ابن الجوزي رحمه الله في ترجمة سليمان بن داود المعروف بالشاذكوني عن إسماعيل بن طاهر البلخي قال: رأيت سليمان الشاذكوني في النوم، فقلت: ما فعل الله بك يا أبا أيوب؟ فقال: غفر الله لي. قلت: بماذا؟ قال: كنت في طريق أصبهان أَمُرّ إليها فأخذتني مَطْرَةٌ، وكانت معي كتب(9)، ولم أكن تحت سقف ولا شيء، فانكببت على كتبي حتى أصبحت وهدأ المطر، فغفر لي الله بذلك(10). وغير ذلك كثير من الأحاديث والشواهد التي تؤكد على ما ذكرناه آنفاً.
والسر في ذلك أن مدار قبول الأعمال وارتفاعها بصاحبها ليس مرجعه إلى حجمها، ولا إلى شكلها، ولا إلى حجم مَنْ فعلها، إنما المدار على ما فيها من صدقٍ وإخلاصٍ ومتابعةٍ للشرع، وهذا قد يتحقق في أقل الأعمال وأصغرها،كما أنه قد ينتفي من أجلِّ الأعمال وأعظمها؛ يقول ابن القيم رحمه الله: (وصحة الاقتداء بالرسول لقاح الإخلاص, فإذا اجتمعا أثمرا قبول العمل والاعتداد به)(11). ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الله لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»(12).
يقول المناوي رحمه الله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ) أي لا يجازيكم على ظاهرها ( ولا إلى أموالكم ) الخالية من الخيرات؛ أي لا يثيبكم عليها ولا يقربكم منه ( ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم ) التي هي محل التقوى وأوعية الجواهر وكنوز المعرفة ( وأعمالكم )(13).
وقال أيضا: (فالقلب هو مَحَلُّ نظر الحق، فلا عبرة بحسن الظاهر، وزخرف اللسان مع خبث الجَنَان)(14).
ويقول الإمام أبو بكر الكلاباذي رحمه الله: (قوة القلب هي التي تُقدّم ليس قوة البدن، وإنما يَقْوى القلب؛ لأنه موضع نظر الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» والله تعالى إنما ينظر إلى ما يحب ويختار، ولا ينظر إلى ما يبغض... فقويت القلوب بنظر الله إليها وأشرقت واستنارت وتزينت)(15) .
وعن داود الطائي رحمه الله أنه قال: (رأيتُ الخيرَ كلَّه إنَّما يجمعُه حُسْنُ النِّيَّة ، وكفاك به خيراً وإنْ لم تَنْصَبْ)(16)(17).
فالحاصل أنه لا يُغترّ بحجم العمل وضخامته حتى يُرى موقعه من الصدق والإخلاص ومتابعة الشرع، فقد اغترَّ الصحابة رضوان الله عليهم برجلٍ أبلى في المعركة بلاء حسناً، وأثنوا على شجاعته وإقدامه؛ فإذْ بالنبي صلى الله عليه وسلم يفاجئهم بقوله: (هو في النار)- نسأل الله العفو والعافية- فكان السر في ذلك ما شاب قلبه من النفاق(18). ومعلومٌ حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين هُمْ أول من تسعّر بهم النار (19)– عياذاً بالله- وأعمالهم تحاذي الجبال في رفعتها وَعُلُّوِّ مقامها في الشرع، لكنها هَوَت بأصحابها لمّا شابت قلوبهم الشوائب من الرياء والسُمعة، فلما وضعت في ميزان الشرع طاشت فلم يَعُدْ لها قيمة.
وفي الوقت ذاته لا يُحتقر من المعروف شيئٌ ولو كان حقيراً ؛ فلعله مُلئ صدقاً وإخلاصاً، فوقع من الله موقع القبول والرضا، فبلغ بالعبد ما لم يكن يحتسبه، بل ولا يتخيله؛ فرُبّ كلمةٍ صادقة قلتَها، أو معلومةٍ نافعة بذلتها، أو نصيحةٍ صادقة أسديتها، أو رسالةٍ نافعة كتبتها وأرسلتها، أو ملهوفٍ أغثته، أو مكروب فرّجت كَرْبه، أو مظلومٍ رفعت مظلمته، أو مطعون في عِرْضه دفعت عنه أو.... إلخ فلاقى من الله القبول والرضا، فشكر الله لك ، فغفر لك ، فكانت هي التي بلغت بك؛ وفضل الله عظيم، وكرمه عميم، وهو سبحانه الشكور الودود.
نسأل الله تعالى بفضله ومنِّه وكرمه أن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهه تعالى خالصة، ولا يجعل لأحدٍ فيها شيئاً ، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلم/ أحمد عبد الوهاب سالم
الباحث بإدارة الإفتاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: لطائف المعارف لابن رجب (13).
(2) منهاج السنة النبوية (6/218،219).
(3) صحيح مسلم (ح 6863).
(4) مصنف ابن أبي شيبة (8/107)، ,وأخرجه أبو عبد الله المروزي عن ابن المبارك في كتاب البر والصلة مختصراً (143)، وقال محققه:« رجال إسناده ثقات». وصححه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (173).
(5) رواه أحمد في المسند (14/344)، والنسائي في سننه (7/318) ، وقال محققه : حسن صحيح . وأصله عند البخاري(ح 3293)، ومسلم(ح4081).
(6) صحيح البخاري (ح2234)، صحيح مسلم (5996).
(7) صحيح مسلم (ح 7837).
(8) رواه الترمذي (5/169) وإسناده حسن صحيح كما قال الترمذي.
(9) تشتمل على أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم.
(10) انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (11/214).
(11) الفوائد (199).
(12) رواه مسلم (ح 6708).
(13) فيض القدير(2/277).
(14) فيض القدير (5/49).
(15) بحر الفوائد (280).
(16) أي : وإن لم تتعب.
(17) انظر: جامع العلوم والحكم (13).
(18) انظر الحديث بتمامه عند الطبراني في المعجم (1/296) وإسناده حسن كما في مجمع الزوائد (7/138).
(19) انظره بتمامه في صحيح مسلم (ح 5032).
|