إدارة الإفتاء

مَشْهَدُ الْحجِيجِ... وَمِنَحُ الْجلِيلِ


مَشْهَدُ الْحجِيجِ... وَمِنَحُ الْجلِيلِ

الحمد لله الذي رتَّب على حج بيته الحرام كل خير جزيل، وجعل قَصْده من أجل القربات الموصلة إلى ظلَّه الظليل، ويسَّر أسبابه وهوَّن الوصول إليه والسبيل، ودعا عباده المؤمنين لزيارته، فلبّوا دعوته مسرعين، وفارقوا لأجل رضاه الأهل والبنين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الجليل، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، وخاتم النبيين والمرسلين، خير من تهجد وعبد، وأفضل من حجَّ واعتمر، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد ...

ما أجمل هذه اللحظات، وما أمتع تلك الأوقات، وما أبرك وأجلَّ هذه الساعات، تلك التي يمَّم فيها الحجيج وجوههم صوب البلد الأمين، والمقام الكريم، قاصدين البيت العتيق، والحرم المنيف الشريف؛ ملبين بذلك نداء الخليل؛ قال الله عز وجل: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ...﴾[الحج: 27،28] .

وصدق الله، لقد جاؤوا رجالاً على أرجلهم، وركباناً على كل ضامرٍ، جاؤوا من كل فج عميق، تحدوهم الأشواق، وتسوقهم الأماني والرغبات، كيف لا!! وهى أرض الرحمات والنفحات، أرض الخيرات والبركات، أرض العطايا والهبات، فحُقَّ للنفوس أن تحنو وأن تتوق، وحُقَّ للأرواح أن تُحلِّق أملاً في الوصال واللحاق؛ يقول ابن القيِّم رحمه الله في بدائع الفوائد(2/281) : «ولو لم يكن له شَرفٌ إلا إضافتُه إِيّاه إلى نفسِه بقوله: (وطهِّرْ بيتي)؛ لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفاً، وهذه الإضافة هي التي أقبلَتْ بِقلُوبِ العالَمِين إليه، وسلَبت نفوسَهم؛ حُباًّ له وشوقاً إلى رؤيته؛ فهو المثابةُ لِلمُحبِّين يَثُوبُون إليه ولا يَقْضُون منه وَطَراً أبداً، كلما ازدادُوا له زيارةً ازدادوا له حُبّاً وإليه اشتياقاً، فلا الوصال يشفيهم، ولا البعاد يسليهم، كما قيل:  

     أطوفُ به والنفس بعدُ مَشوقةٌ  ***   إليهِ وهل بعد الطوافِ تــدانِ؟

     وألثم منه الركن أطلــب برد  ***   ما بقلبيَ من شوقٍ ومن هَيَمانِ

     فواللهِِ ما أزدادُ إلا صَبــابةً   ***   ولا القلبُ إلا كثرة الخَفَقــانِ ». أهـ

لقد جاؤوا شوقاً وحنيناً، ورغبةً ورهبةً، من كل فجٍ عميقٍ، يهللون، ويبتهلون، ويلهجون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

 وقد أتوا ربهم شعثاً غُبراً، قد تجردوا من كل زينة، وانفكّوا عن كل حلية ؛ ارتفعت عنهم الأوصاف، وزالت عنهم الألقاب ، فلا عظيم وحقير، ولا رفيع ووضيع، ولا كبير وصغير، ولا رئيس ومرؤوس ؛ جاؤوا عبيداً متجردين؛ يرجون الرحمة والغفران، ويؤملون  القُرْب والوصال، يخافون العذاب والخذلان، ويخشون الطرد والحرمان ، ولسان حالهم يقول :

     إليكَ إلهِي قـد أتيـتُ مُلَبّيـاً   ***   بـارِكْ إلهِـي حجّتـِي ودُعائـيَا

     قصَدتُك مضطرًا وجئتُكَ باكيـا  ***   وحاشاك ربـي أن تَـرُدَّ بُكَائـيَا

     كفاني فخـرًا أننـي لك عابدٌ   ***   فيافرْحَتي إنْ صِرتُ عبدًا مُواليَـا

     إلهي فأنت اللهُ لا شيءَ مثلُـه  ***   فأفْعـمْ فـؤادِي حكمـةً ومعانيَا

     أتيتُ بلا زادٍ، وجودُك مَطْعَمِي  ***   وما خاب من يهْفُو لجُودِك ساعيَا

     إليكَ إلهِي قد حضرتُ مؤمِّـلاً  ***   خلاصَ فؤادِي مِن ذُنـوبي مُلَبّيَا

ورب العالمين جل جلاله مطَّلع عليهم، يباهى بهم ملائكته يقول: هؤلاء عبادي جاءوني شُعْثاً غبراً من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني، فكيف لو رأوني؟

ولله درّ ابن القيم رحمه الله وهو يصف ذلك المشهد العظيم الجليل فيقول في ميميته:

     أَمَا والذِي حَجَّ المُحِبُّـونَ بَيْتَــهُ      ***   وَلَبُّوا لَهُ عندَ المَهَلِّ، وَأَحْرَمُوا

     وَقَدْ كَشَفُوا تِلكَ الرُؤوسِ تَواضُعـًا     ***   لِعِزَّةِ من تَعْنُو الوُجوهُ وَتُسلـِمُ

     يُهلُّـونَ بالبَيـْدَاءِ: لَبَّيكَ رَبَّنَـــا     ***   لك المُلْكُ والحَمْدُ الذِي أَنْتَ تَعلَمُ

     دَعَاهُـم فَلَبَّـوهُ رِضـىً وَمَحبَّـةً     ***   فلما دَعَوْهُ كانَ أَقْرَبَ مِنْهُــمُ

     تَراهُم على الإِنْضَاءِ شُعْثًا رُءوسُهُم     ***   وغُبْرًا وهم فيها أَسَـرُّ وأَنْعَمُ

     وَقَدْ فَارَقُوا الأَوْطَانَ والأَهْلَ رَغْبَـةً     ***   ولم يثْنِهِم لِذَاتُهُـم والتَّنعُّــمُ

     يَسِيرُونَ من أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِــهَا      ***   رِجالاً وَرُكبانًا، ولله أَسْلَمُــوا...

     رَاحُوا إلى التَّعريفِ يَرجُونَ رَحْمَةً       ***   وَمَغفرةً ممنْ يَجُـودُ ويُكْــرِمُ

     فَللهِ ذاكَ المَوقفُ الأعظمُ الــذِي      ***   كَموقِفِ يومِ العَرضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ

     وَيَدنُو بِـهِ الجَبَّارُ جـلَّ جَـلالُـهُ      ***   يُباهِي بهم أَمْلاكَهُ فهـو أَكْـرَمُ

     يقولُ: عِبادِي قد أَتَونِي مَحَبَّــةً       ***   وإنِّي بهم بَرٌّ أَجـودُ وَأَرحــمُ

     فَأُشهِدُكُم أنِّي غَفَرتُ ذُنُوبَهُـــم      ***   وَأَعْطَيْتُهُم مَا أَمِلُـوهُ وأَنْعَــمُ

     فَبُشرَاكُم يا أَهلَ ذَا المَوقفِ الذِي        ***   بهِ يَغفرُ اللهُ الذُّنُوبَ، وَيرحـمُ.

أتراهم بعد هذا يردون خائبين، أو ينقلبوا خاسرين منكسرين؟ كلا؛ فما كان هذا فعل الكريم بالصادقين، ولا هو شأن الرحيم مع الصالحين المتقين، كيف لا!! وهم وفْدُه وحجاج بيته، وزُوَّار حرمه وملبو ندائه، وكما قال القائل :

     يَا غَافِرَ الذَنْبِ الْعَظِيِمِ وَقَابِـلاً   ***   للتَوبِِ، قَلْبٌ تَائِبٌ نَاجَاَكَــا

     أَتَرُدُّه وَتَرَدُّ صَادِقَ تَوْبَتِــي   ***   حَاشَاكَ تَرْفُضُ تَائِبَاً حَاشَاكَ

فدونك أيها المحب الكريم، وأيها القاصد النبيل هذه المنح، وتلك الهدايا والتحف من الملك الجليل أَرعِ لها سمعك وبصرك، وأيقظ لها عقلك وفؤادك علَّك تكون لها من  الحائزين :

روى ابن ماجه وابن حبان بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي  صلّى الله عليه وسلّم قال: «الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْحاجُّ وَالْمعْتَمِرُ، وَفْدُ اللهِ، دَعَاهُمْ، فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ». وروى الطبراني بإسناد حسن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: « مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ إِلا بُشِّرَ، وَلا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إِلا بُشِّرَ. قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، بِالْجنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ ». وروى أحمد والطبراني واللفظ له بإسناد صحيح عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ مَسْحَ الْحجَرِ الأَسْوَدِ, وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ يَحُطَّانِ الْخطَايَا حَطًّا». وروى أحمد بإسناد صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « لَيَبْعَثَنَّ اللهُ الْحجَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ ، يَشْهَدُ بِهِ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ». وروى مسلم في صحيحه عن عائشة  رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ الله فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْملاَئِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ ».  وروى ابن ماجه بإسناد صحيح عن بلال رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ اللهَ تَطَوَّلَ عَلَيْكُمْ فِي جَمْعِكُمْ هَذَا ، فَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ ، وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ ، ادْفَعُوا بِاسْمِ اللهِ». وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:  «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ  فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». وروى الطبراني بإسناد حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَمَّا خُرُوجُكَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ وَطْأَةٍ تَطَأُهَا رَاحِلَتُكَ يَكْتُبُ الله لَكَ بِهَا حَسَنَةً , وَيَمْحُو عَنْكَ بِهَا سَيِّئَةً , وَأَمَّا وُقُوفُكَ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْملائِكَةَ, فَيَقُولُ:هَؤُلاءِ عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي , وَيَخَافُونَ عَذَابِي, وَلَمْ يَرَوْنِي , فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟فَلَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ رَمْلِ عَالِجٍ, أَوْ مِثْلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا, أَوْ مِثْلُ قَطْرِ السَّمَاءِ ذُنُوبًا غَسَلَ الله عَنْكَ , وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ فَإِنَّهُ مَدْخُورٌ لَكَ, وَأَمَّا حَلْقُكَ رَأْسَكَ , فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَسْقُطُ حَسَنَةٌ , فَإِذَا طُفْتَ بِالْبَيْتِ خَرَجْتَ مِنْ ذُنُوبِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ».

فهنيئاً لمن رزقه الله حج بيته ، والوفادة إلى حرمه ، والتعرض لفيض عفوه وكرمه ، وجزيل منِّه وفضله ، فا للهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تكتب لنا حجاً مبروراً ، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً ، وعملاً صالحاً مقبولاً ، ودعاءً مستجاباً ، إنك سبحانك بكل جميل كفيل ، وأنت حسبنا ونعم الوكيل ، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا وخليلنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.             

 

بقلــم/

أحمد عبد الوهاب سالم     

الباحث بإدارة الإفتاء

 
وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - دولة الكويت - إدارة الإفتاء