هل يلزمُ المفتي ذكر الدَّليل
الحمد لله حقّ حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، وصحبه.
أمّا بعد: فإنَّ ممّا لا خلافَ فيه أنّه لا يجوزُ أن يفتيَ في دينِ الله سبحانه إلاّ عالمٌ بأدلَّةِ الشريعةِ، ومقاصدِها الكليّةِ، وأنّ الفتوى بالرأي المجرَّدِ بابٌ من أبوابِ الضَّلالةِ، والقولِ على الله تعالى بلا علمٍ، ولا بيِّنةٍ.
ولا يخفى أنّ الفتوى المشفوعةَ بالدَّليلِ، المصحوبةَ بالتعليلِ؛ تكونُ أحرى بفهمِ المستفتِي، وقبولِه لها ، وانشراحِ صدرِه للعملِ بها؛ من الفتوى المجرَّدةِ عن الدَّليلِ أو التَّعليلِ.
وإذا عُلم ذلك؛ فهل يلزمُ المفتيَ ذكرُ الدَّليلِ على الأحكامِ الّتي يقرِّرها في فتواه؟
اختلف العلماءُ في ذلك على أقوالٍ:
القولُ الأوّلُ: ينبغي للمفتي أن يذكرَ الدَّليل على الحكمِ الذي انتهى إليه، ويبيِّنَ مأخذَه ما أمكنه ذلك.
وممّن نصّ على ذلك: العلاَّمةُ ابنُ القيّم؛ حيث قال: «ينبغي للمفتي أن يذكرَ دليلَ الحكمِ ومأخذَه ما أمكنه من ذلك، ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجاً مجرَّداً عن دليلِه ومأخذِه؛ فهذا لضِيقِ عَطَنِه، وقلَّةِ بضاعتِه من العلمِ، ومن تأمَّلَ فتاوى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الّذي قولُه حجَّةٌ بنفسِه رآها مشتملةً على التَّنبيهِ على حكمةِ الحُكمِ ونظيرِه، ووجهِ مشروعيتِه»(1).
ثمّ قال -بعد أن ذكر أمثلةً على ذلك من السنّةِ النبويّةِ- «فينبغي للمفتي أن ينبِّه السائلَ على علّةِ الحكمِ ومأخذِه إن عرف ذلك، وإلاّ حرُم عليه أن يفتيَ بلا علمٍ»(2).
وقال أيضاً: «عاب بعضُ النّاس ذكرَ الاستدلالِ في الفتوى، وهذا العيبُ أولى بالعيبِ؛ بل جمالُ الفتوى وروحُها هو الدَّليلُ؛ فكيف يكونُ ذِكْرُ كلامِ الله ورسولِه وإجماعِ المسلمينَ، وأقوالِ الصحابةِ رضوان الله عليهم، والقياسِ الصّحيحِ عيباً؟! وهل ذكرُ قولِ الله ورسولِه إلا طِرازُ الفتاوى؟!...»(3).
ثمّ استدلّ على ما قرّره بأنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الّذي قولُه حجّةٌ كان يُسألُ عن المسألةِ فيضربُ لها الأمثالَ، ويشبّهُها بنظائرِها؛ فكيف بمَنْ ليس قولُه حجّةً! يعني: أنّه أولى بذكرِ الحجّةِ في فتواه(4).
القولُ الثّاني: لا ينبغي للمفتي أن يذكرَ الدَّليلَ في الفتوى مطلقاً؛ ليُفرَّقَ بين الفتوى والتّصنيفِ.
وممّن ذهب إلى هذا: القاضي أبو الحسن الماورديُّ صاحب كتاب (الحاوي)؛ حيث قال:
«إنّ المفتيَ عليه أن يختصرَ جوابَه؛ فيكتفيَ فيه بأنّه يجوزُ، أو لا يجوزُ، أو حـقٌّ أو باطلٌ، ولا يعـدلُ إلى الإطالةِ والاحتجاجِ؛ ليُفـرَّقَ بين الفتوى والتّصنيفِ». قال: «ولو ساغ التّجاوزُ إلى قليلٍ لساغ إلى كثيرٍ، ولصارَ المفتي مدرِّساً، ولكلِّ مقامٍ مقالٌ»(5).
وممّـا احتُـجَّ بـه لهـؤلاء: أنّ العلماءَ في كلِّ عصـرٍ -من لـدن الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم- لا يزالون يفتُون العوامَّ، ويقبَلون ذلك ويعملون به من دونِ بيانِ دليلِ ذلك، وشاع ذلك وذاع من غير إنكارٍ؛ فكان إجماعاً(6).
القولُ الثّالثُ: التّفصيلُ بين أن يكونَ السّائلُ فقيهاً فيُذكر له الدّليلُ، أو عاميًّا فلا يُذكر له الدليلُ.
وممّن نصّ عليه: القاضي أبو القاسم الصيمريُّ، والخطيبُ البغداديُّ.
قال الصيمريُّ: «لا يذكرُ الحجّةَ إن أفتى عاميًّا، ويذكرُها إن أفتى فقيهاً؛ كمـن يُسـأل عـن النكاح بلا ولـيٍّ؛ فحسن أن يقـول: قـال رسـولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ) (7)، أو عن رجعةِ المطلَّقةِ بعد الدخولِ؛ فيقول: لهُ رجعتُها؛ قال اللهُ تعالى: )وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ( (8)» (9).
وقال الخطيبُ البغداديُّ: «ولم تجرِ العادةُ أن يُذكرَ في الفتوى طريقُ الاجتهادِ, ولا وجهُ القياسِ والاستدلالِ؛ اللهمَّ إلا أن تكونَ الفتوى تتعلّقُ بنظرِ قاضٍ أو حاكمٍ؛ فيومئ فيها إلى طريقِ الاجتهادِ, ويلوِّح بالنُّكتةِ التي عليها ردَّ الجوابَ, أو يكونَ غيرُه قد أفتى فيها بفتوى غلَطٍ فيما عنده؛ فيلوِّح للمفتي معه؛ ليقيم عذرَه في مخالفتِه, أو لينبِّهَ على ما ذهب إليه. فأمّا من أفتى عاميًّا؛ فلا يتعرَّضُ لشيءٍ من ذلك» (10).
القولُ الرّابعُ: التفصيلُ بين أن يكونَ الدَّليلُ نصًّا واضحاً أو مقطوعاً به؛ فيجوزُ ذكرُه، أو يكونَ دليلاً خفيًّا، أو يحتاجُ إلى نظرٍ واجتهادٍ ؛ فلا ينبغي ذكرُه.
وممّن نصّ على هذا: الحافظُ ابنُ الصلاح ، والقاضي ابنُ حمدان الحنبليُّ.
قال ابنُ الصّلاح: «ليس بمنكَرٍ أن يذكرَ المفتي في فتواه الحجّةَ إذا كانت نصًّا واضحاً مختصراً؛ مثلُ أن يُسألَ عن عدَّةِ الآيسةِ؛ فحسنٌ أن يكتبَ في فتواه: قال الله تبارك وتعالى: )وَالَّلائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَالَّلائِي لَمْ يَحِضْنَ( (11)، أو يُسألَ: هل يطهرُ جلدُ الميتةِ بالدِّباغِ؟ فيكتب: نعم يطهرُ؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّما إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ) (12).
وأمّا الأقيسةُ وشِبهُها فلا ينبغي له ذكرُ شيءٍ منها »(13).
وإلى ما ذهب إليه ابنُ الصّلاح وابنُ حمدان أشار الإمامُ السّمعانيُّ بقوله: «لا يُمنع -يعني: العامِّيَّ- من طلبِ الدَّليلِ، وأنّه يلزمُ المفتيَ أن يذكرَ له الدَّليلَ إن كان مقطوعاً به، ولا يلزمُه إن لم يكن مقطوعاً به؛ لافتقارِه إلى اجتهادٍ يقصرُ فهمُ العامِّيِّ عنه»(14).
ولعلّ هذا القولَ الأخيرَ، وما فيه من تفصيلٍ هو أعدلُ الأقاويلِ؛ إذ به يجتمعُ ما ذكره المختلفون من أدلّةٍ وتعليلٍ، وبالله التّوفيقُ، وعليه قصدُ السّبيلِ.
والله أعلم، وصلّى الله على نبيّنا محمّد، وعلى آله، وصحبه، وسلّم
بقلم/
نور الدين عبد السلام مسعي
الباحث في إدارة الإفتاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) «إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين» (4/161).
(2) «إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين» (4/163).
(3) «إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين» (4/259-260).
(4) انظر: «إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين» (4/260).
(5) انظر: «أدب المفتي والمستفتي» لابن الصلاح (1/76-77).
(6) انظر: «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (6/207)، و«إجابة السائل شرح بغية الآمل» للصنعاني (ص407).
(7) أخرجه أبو داود (ح2085)، والترمذيّ (ح1101)، وابن ماجه (ح1880) ، وصحّحه عليُّ بنُ المديني وغيرُه. انظر: «البدر المنير» لابن الملقّن (7/543-550)، و«فتح الباري» لابن حجر (9/184).
(8) سورة البقرة: 228.
(9) انظر: «المجموع» للنّوويّ (1/52).
(0) انظر: «الفقيه والمتفقّه» (2/406-407). وعزاه ابن الصّلاح في «أدب المفتي والمستفتي» (ص152) للصيمريّ ؛ دون قوله: «أو لينبِّه على ما ذهب إليه...»؛ فكأنّ الخطيب أخذ كلامه عن الصيمري، وزاد عليه ما بعده، والله أعلم.
(11) سورة الطلاق: 4.
(12) أخرجه مسلم (ح366) -بلفظ: «إذا دبغ الإهاب...»-، والترمذي (ح1728)، والنّسائي (ح4241)، وابن ماجه (ح3609).
(13) «أدب المفتي والمستفتي» (ص151-152). وذكر ابن حمدان في «صفة الفتوى» (ص66) مثل كلام ابن الصّلاح مختصراً.
(14) انظر: «أدب المفتي والمستفتي» (1/85)، و«المجموع» (1/57) .
|