وأقبلـت العشـر..
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغرِّ المحجَّلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...
وهكذا تمضي الأيام مسرعة، تجر خلفها نسمات هذا الشهر المبارك، وها هو شهرنا الفضيل، وضيفنا الكريم قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، لكنه لا يزال يهمس في آذان الموحّدين: هل من مشمِّر للجنان؟ ألا من طالب للعتق من النيران؟ ألا من طالب للقرب من الرحمن؟ فما زالت الفرصة قائمة، ولا زالت السوق مُنعقدة، وربُّ العالمين أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، وأرحم الراحمين.
ها هي العشر الأخيرة المباركة من هذا الشهر المبارك قد أظلتنا، وحلَّت بوادينا، وشممنا رائحتها العبقة الزكية؛ فهي أفضل أيامه ولياليه؛ إذ فيها أشرف وأعظم ليلة في الدنيا وهي ليلة القدر. إنها الليلة المباركة التي تنزَّلت فيها الرحمات على أهل الأرض بنزول القرآن؛ قال الله عز وجل: )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ( [الدخان: 3].
هذه الليلة المباركة التي لا يوافقها عبد مسلم يتضرع إلى الله عز وجل، ويتقرب إليه بالعبادة مخلصاً محتسباً إلا كان من أسعد خلق الله عز وجلَّ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) [رواه البخاري ومسلم]. هذه الليلة المباركة التي لا يُحرم خيرها إلا محروم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلاَّ مَحْرُومٌ ) [رواه ابن ماجه ، وهو حديث حسن].
من أجل ذلك كان لهذه العشر أهمية خاصة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياة أصحابه؛ فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم تتغير كثيراً في هذه العشر، وتختلف عمَّا كانت عليه في العشرين الأُول من رمضان من حيث الجدُّ والاجتهاد ومضاعفة الجهد في طاعة الله عز وجل والتقرّب إليه، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، لكنه كان يضاعف من هذا الجهد والاجتهاد في هذه العشر؛ رجاء ما فيها من الخيرات والرحمات والنفحات والبركات، ولنستمع إلى أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تصف لنا حال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر؛ تقول رضي الله عنها: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) [رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري] .
وعند مسلم: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِى غَيْرِهِ).
وفي الصحيحين عنها أيضاً: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ الله، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) [رواه البخاري ومسلم] .
فقد بيّنت لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال النبي r في هذه العشر وما كان عليه من جدِّ واجتهاد وزيادة أعمال صالحة، وهذا إن دلَّ فإنما يدلُّ على عِظم هذه العشر، وعِظم ما فيها من الخيرات والرحمات والنفحات الإلهية التي يمتنُّ الله عز وجل على عباده بها، حتى إنه r حريص أشد الحرص على ألا يفوته شيء من هذه المنح ولا من تلك النفحات .
إذاً نستطيع أن نخْلُص إلى أن أعمال النبي r التي كان يَخُصُّ بها هذه العشر هي :
أولاً: كان صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها بأنواع العبادة: من صلاة وقرآن وذكر وصدقة وغير ذلك أكثر مما يجتهد في غيرها من الأيام والليالي.
ثانياً: شد المئزر: قال بعض أهل العلم: وهذا كناية عن اعتزاله صلى الله عليه وسلم للنساء في هذه العشر، وإقباله على الله بالكليَّة ، وتفرُّغه للعبادة والذكر .
ثالثاً: إحياء الليل : أي استغراقه بالسَّهر في الصلاة والذكر وقراءة القرآن وغير ذلك، فلا نوم ولا راحة فيها، إنما جدّ واجتهاد، واستباق للخيرات، ومسارعة لرحمات الله، ولجنة عرضها السموات والأرض.
رابعاً: إيقاظ أهله: فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم في هذه العشر أنه يوقظ أهله للصلاة والذكر ومناجاة الله عز وجل وغير ذلك؛ حرصاً منه صلى الله عليه وسلم على أن يدرك أهله ما في هذه الليالي المباركة من الخيرات لاسيما ليلة القدر، وحتى يصيبهم ما فيها من الرحمات والبركات، وقد صح عنه r كما روى البخاري أنه كان يطرق باب فاطمة وعليٍّ ليلاً ليُصلِّيا. فلم يكن r يقتصر على العمل لنفسه ويترك أهله في نومهم كما يفعل بعض الناس هداهم الله ، وهذا بلا شك خطأ وتقصير ظاهر .
خامساً: الاعتكاف: فقد كان هديه صلى الله عليه وسلم المستمر: الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجلَّ . وفي العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً؛ كما روى البخاري رحمه الله .
يقول ابن رجب رحمه الله في لطائف المعارف: «وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر؛ قطعاً لأشغاله، وتفريغاً للياليه، وتخلّياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجز حصيراً يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم». أهـ
وقد تعجَّب بعض السلف رحمهم الله من ترك الناس للاعتكاف مع مواظبة النبي r؛ يقول الإمام الزهري رحمه الله: «عَجَبًا لِلْمُسْلِمِينَ, تَرَكُوا الاعْتِكَاف، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْرُكْهُ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَبَضَهُ الله». [ذكره الحافظ في فتح الباري (4/285)] .
وفي الاعتكاف من الأسرار ما فيه؛ من صفاءٍ للقلب والروح، وانشغالٍ بالرب جل وعلا، وذكره، وخلوةٍ بالمعبود جل جلاله والأنس به، وانقطاعٍ عن شواغل الدنيا ومشكلاتها، فإذا كان الصيام وقاية للقلب من مغبَّة الصوارف الشهوانية من فضول الطعام والشراب والنكاح، فإن الاعتكاف ينطوي على سر عظيم وهو حماية العبد من آثار فضول الصحبة وفضول الكلام وفضول النوم وغير ذلك من الصوارف التي تُفرِّق أمر القلب وتفسد اجتماعه على طاعة الله عز وجل.
فلا ينبغي للمسلم العاقل، ولا يليق به أنُ يُفوّت هذه الفرص الثمينة، ولا أنْ يضيِّع تلك المنح الجليلة، فما هي إلا ليالٍ معدودة، وأيامٌ ستنقضي، لكنَّ سعادة الدنيا والآخرة قد تكون فيها، والموفّق من َّوفقه الله عز وجل.
فيا أرباب الذنوب العظيمة!! الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة؛ فما منها عوض ولا وتُستدرك بقيمة؛ فمن يُعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة والمنحة الجسيمة .
أسأل الله العظيم بفضله ومنِّه وكرمه ألا يحرمنا خير هذه الليالي والأيام المباركة، وألا يخرجنا منها إلا وقد كتب لنا القبول، والعتق من النيران، والفوز بالجنان إنه سبحانه ولي ذلك ومولاه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين ، وصلّى الله على نبيينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بقلــم/
أحمد عبد الوهاب سالم
الباحث بإدارة الإفتاء