وقفات بين عامين
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدَّره تقديراً ، وجعل تعاقب السنين والأعوام عبرة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكوراً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قضى بالحكمة وجعل لكل شيء أجلاً محتوماً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بين يدي الساعة للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :
ها نحن نعيش لحظات عظيمة ؛ نودع فيها عاماً كاملاً مضى ؛ تناقصت فيه أعمارنا ، وتقاربت فيه آجالنا ، عام تصرَّمت أيامه ، وطويت صفحاته بما استودعناه من أعمالنا ، عام حَوى بين جَنبيه حِكَماً وعِبراً وأحداثاً وعِظات تحتاج من كل مؤمن بصير أن يقف عندها وقفات :
1) وقفة تأمل واعتبار :
إن المتأمل في أيام العام يعجب من سرعة انقضائها ومرور أيامها ؛ فما كاد الإنسان يستقبل أول العام ، حتى فاجأه انقضاء شهوره وأيامه ، وهذه آية من آيات صدق النبي r ، ومعجزة من معجزات دينه الذي أخبر فيه بتقارب الزمان ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : (لا تَقومُ السَّاعةُ حتَّى يتَقاربَ الزَّمانُ ؛ فتكونُ السَّنةُ كالشَّهرِ ، والشَّهرُ كالجُمُعةِ ، وتكون الجُمُعةُ كاليومِ ، ويكون اليومُ كالسَّاعةِ ، وتكون السَّاعةُ كالضَّرمَةِ بالنَّارِ) [رواه أحمد والترمذي وابن حبان] .
فهذه هي الدنيا ما هي إلا لحظات ، وهذه هي أعمار الخلق تنقضي قبل انقضاء هذه اللحظات ؛ قال تعالى: ﴿وَيَومَ يحشُرُهُمْ كأَنْ لَم يَلْبثُوا إلاَّ ساعةً مِن نَّهارٍ يَتعارَفُونَ بَينَهُم﴾ [يونس: 45]؛ وقال سبحانه: ﴿وَيَومَ تَقُومُ السَّاعةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيرَ سَاعَةٍ﴾ [الروم: 55]؛ وقال جل شأنه : ﴿كَأَنَّهُم يَومَ يَرَونَ ما يُوعَدُونَ لَم يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِن نَّهارٍ﴾ [الأحقاف: 35].
فكيف للعاقل أن يتعلق بهذه الفانية الزائلة ؟! كم هم أولئك الذين تعلقت قلوبهم بهذه الدنيا حتى ظنوا أنهم مخلدون فيها ؛ فعاشوا لأجلها ، وسعوا لنيل كل ما طالته أيديهم من متاعها وملذاتها ، حتى إذا ما حانت ساعة العمر ، إذا بالموت يقطع الأفراح ، ويهدم اللذات ، ويسلب من القلوب فرحها ، ومن الخلان خليلهم ؛ فيخرج العبد منها بما قدمت يداه ، ويبقى وراءه كل ما جمع من حطام الدنيا؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : (يَتبَعُ الميِّتَ ثلاثَةٌ ؛ فَيرجِعُ اثنانِ وَيَبقَى مَعَهُ واحدٌ ، يَتْبعُهُ أَهْلُهُ وُمالُهُ وَعَمَلُهُ ، فَيرجِعُ أهلُهُ ومالُهُ ، ويَبقَى عَمَلُهُ) [متفق عليه].
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول : «ابنَ آدمَ إنَّما أنتَ أيامٌ ؛ فكُلَّما ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُكَ، ابنَ آدمَ إنَّكَ لم تَزَلْ في هَدْمِ عُمُركَ مُنذ يومِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» [الزهد لابن أبي الدنيا ص428] .
وعن الحسن أن ملك الموت سأل نوحاً عليه السلام فقال : «كيفَ وجدتَ الدُّنيا ؟ قال نوحٌ : مِثلَ دارٍ لها بابان ، دَخلتُ مِن هذا وَخَرجتُ مِن هذا» [تفسير القرطبي 13/306].
فالحذر الحذر من الاغترار بالدنيا وزينتها ، فإن الله حذر عباده من ذلك فقال سبحانه : ﴿يا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنيا﴾ [لقمان: 33] ، وقال جل ثناؤه عن مؤمن آل فرعون وهو يحذر قومه: ﴿يا قَومِ إنَّما هَذهِ الحياةُ الدُّنيا مَتاعٌ وَإنَّ الدَّارَ الآخَرِةَ هي دَارُ القَرارِ﴾ [غافر: 39] .
ورحم الله القائل :
تمـرُّ بنــا الأيـَّامُ تَترَى وإنَّما نُساقُ إلى الآجالِ والعَينُ تَنظُـرُ
فلا عائِدٌ ذاكَ الشَّبابُ الذي مَضَى ولا زائلٌ هذا المَشِيبُ المُكَــرَّرُ
2) وقفة محاسبة :
إذا أدرك اللبيب البصير حقيقة الدنيا ؛ فإنه لا بد وأن يقف مع نفسه وقفة محاسبة طويلة ؛ لأن الله تعالى له بالمرصاد ، وسيحاسب العباد على الصغيرة والكبيرة ، والدقيقة والجليلة حتى يقولوا ﴿ يا وَيلَتَنا ما لهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرةً ولا كَبيرَةً إلاَّ أَحْصَاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف : 49] .
وإنه لمن الكياسة أن يتخفف العبد من أثقاله في السفر الطويل ؛ فيبادر إلى محاسبة نفسه ووزن أعماله ، قبل أن يأتي يوم الحساب ويضع الملك العدل الموازين القسط ليوم القيامة ؛ قال تعالى : ﴿وَنَضَعُ المَوازينَ القِسْطَ ليَومِ القِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفسٌ شَيئاً وِإنْ كَانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ أَتَينا بِهَا وَكَفَى بِنَا حاسِبينَ﴾ [الأنبياء: 47] . فمن أطلق لنفسه العنان في الدنيا ثقل حمله ، وكثرت زلاته ، وشق عليه حسابه ؛ قال عمر رضي الله عنه : «حاسِبُوا أَنفُسَكُم قَبْلَ أن تُحاسَبُوا ، وَزِنُوا أنْفُسَكُم قَبلَ أن تُوْزَنُوا؛ فإنَّه أَهْوَنُ علَيكُم في الحِسابِ غَداً أن تُحاسِبُوا أنفُسَكُم اليَومَ، وتَزَيَّنوا للعَرْضِ الأَكْبرِ، يَومَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُم خَافِيَةٌ»، وكتب مرة إلى بعض عماله، فقال : «حَاسِبْ نَفسَكَ في الرَّخاءِ، قَبلَ حِسابِ الشِّدَّةِ؛ فإنَّهُ مَن حاسَبَ نَفسَهُ في الرَّخاءِ قَبلَ حِسابِ الشِّدَّةِ، عَادَ مَرْجِعُهُ إلى الرِّضَى والغِبطَةِ، ومَن أَلْـهَتْهُ حَياتُهُ وَشَغَلَتْهُ أَهْواؤُهُ، عَادَ أَمْرُهُ إلى النَّدامَةِ والحَسْرَةِ . فَتذَكَّرْ ما تُوعَظْ بِهِ؛ لِكَيما تَنْتَهِي عَمَّا يُنْهَى عَنهُ، وتَكُونُ عِندَ التَّذكِرَةِ والعِظَةِ مِن أُولي النُّهَى» [محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص22، 59] .
ويقول ميمون بن مهران رحمه الله : «لا يكونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حتَّى يحاسِبَ نفسَهُ محاسَبَةَ شَريكِهِ ، وحتَّى يَعْلَمَ مِن أَينَ مَلْبَسُهُ ومَطْعَمُهُ ومَشْرَبُهُ» [الزهد لوكيع 2/501-502].
ومعنى المحاسبة كما قال الإمام الماوردي رحمه الله : «أن يتَصفَّحَ الإنسانُ في لَيلِهِ ما صَدَرَ من أفعالِ نَهارِهِ ، فإن كان محموداً أمضاهُ وأَتبَعَهُ بما شَاكَلَهُ وضَاهاهُ ، وإن كان مَذْمُوماً استدْرَكَهُ وانتَهَى عَن عَمَلِ مِثلِهِ» [أدب الدنيا والدين ص342].
فالمسلم يحتاج إلى المحاسبة ؛ لأنها توقفه على عيوب نفسه وما نقص منها ؛ فينزلها منزلها ، ويبادر إلى إصلاحها ، وبها يعرف عظيم فضل الله ومنته عليه؛ حينما يرى كيف أنه مع تفريطه وتقصيره في جنب الله، يمد له في عمره ويفسح له في أجله ؛ فيكون ذلك عوناً له في ردع نفسه وكبح هواها ، ثم العمل على تزكيتها وتطهيرها ؛ قال مالك بن دينار : (رَحِمَ اللهُ عَبداً قالَ لنفسِهِ كلَّ ليلةٍ : أَلستِ صاحبةَ كَذا ؟! ألستِ صاحِبةَ كذا ؟! ثُمَّ ذَمَّها ، ثُمَّ خَطَمَها ، ثُمَّ أَلْزَمَها كِتابَ الله وَكانَ لها قائِداً) [محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص26] .
3) وقفة للتوبة والاستغفار :
اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يقع العبد في الذنب والخطيئة في مسيرة حياته الدنيوية ، ومن لطفه ورحمته بعباده أن شرع لهم التوبة والاستغفار ، حتى يتجاوز عنهم ويمحو آثار سيئاتهم ؛ فعلى كل من وقع فيما يغضب الله ويوجب سخطه وعقابه أن يبادر إلى التوبة ، ويداوم على الاستغفار قبل أن يأتيه الموت بغتة ، وعليه أن يعلم أن الأعمال بخواتيهما ؛ فمن ختم له بخير فليحمد الله ، ومن ختم له بغير ذلك فلا يلومن إلا نفسه؛ عن عبد الله بن مسعود عن النبي r أنه قال : (فَوالذِي لا إلهَ غَيرُهُ ، إنَّ أَحَدَكُم لَيعْمَلُ بِعَمَلِ أهلِ النَّارِ حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذِراعٌ فَيَسْبِقُ عليهِ الكِتابُ ، فَيُخْتَمُ لَه بِعَملِ أهلِ الجنَّةِ فيَدْخُلَها ، و إنَّ أَحَدَكُم لَيعْمَلُ بِعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذِراعٌ فَيَسْبِقُ عليهِ الكِتابُ ، فَيُخْتَمُ لَه بِعَملِ أهلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا) [متفق عليه].
إن إدراك عام جديد فرصة لتدارك التفريط والتقصير في جنب الله ، تحتم على اللبيب مراجعة نفسه وطلب رحمة ربه ، ليتجاوز عنه ويغفر له ، ويعاهده على أن يتبع ما أمره به ، ويقلع عما نهاه عنه ، وهنا تتحقق له الخيرية بين بني جنسه ؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلاً قال : (يا رسولَ الله ! أيُّ النَّاسِ خَيرٌ ؟ قالَ : مَن طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ، قيل : فأيُّ الناسِ شَرٌّ ؟ قال : مَن طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ ) [رواه أحمد والترمذي].
وصدق القائل :
إنـَّا لَنَفْــرَحُ بالأَيـَّـامِ نَقْطَعُها وَكُلُّ يَومٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبلَ المَوتِ مُجْتَهِداً فَإِنَّما الرِّبحُ وَالخُسْرانُ في العَمَلِ
4) نظرة أمل وتفاؤل :
عام هجري جديد تستقبله الأمة وجسدها مثخن بالجراح ؛ وأعداؤها قد تكالبوا عليها من أطراف الأرض ليمزقوا وحدتها ، ويستبيحوا بيضتها ؛ إلا أن بصيصاً من النور يومض في آخر الظلام ، يستوجب علينا أن نقف وقفة نستقرئ فيها فصلاً من فصول الحياة، خطه رسول الله r وصحابته الكرام رضوان الله عليهم حينما صنعوا لنا الأمل في موعود الله ونصره ؛ الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.
لقد صنع رسول الله r الأمل حينما التقى بالخزرجين الستة الذين كانوا بدعوته إياهم للإسلام واستجابتهم له نواة العز والتمكين، في حين أن قبائل العز والقوة والجاه والسلاح والمال تأبى عليه دينه ، وتحارب دعوته؛ فأتاه نصر الله من حيث لا يحتسب من ستة نفر كانوا في مجتمع شرذمته الحروب والنزاعات.
فأين المتعلقون بأذيال المادية الصارخة النافضون أيديهم من قدرة الله وعظمته؟!
وهاهو النبي r يعلم الأمة صناعة الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله؛ فحسابات الدنيا كلها تقطع أن الرجل هالك لا محالة، فالحصار حوله محكم ، وأشداء القوم يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم، إلا أنه بقوة الإيمان أوكل أمره لله، ليخرج من الدار رغم أنوف المتكبرين الخائبين.
ويبرق أمل جديد في غار ثور الذي أوى إليه النبي r وصاحبه، فيصله المطاردون ليقفوا على بابه ، حتى خشي الصديق على نبي الله من القوم ؛ إلا أن الثقة بنصر الله المبين جعلت رسول الله يطمئن أبا بكر فيقول : (مَا ظَنُّكَ باثْنَينِ اللهُ ثَالِثُهُما) [متفق عليه]؛ فكان أن رجع القوم خائبين خاسرين.
ولم تزل الخطوب والمصائب تتابع على النبي r وصاحبه حتى بلغ هدفه ومبتغاه، بعد أن صنع الأمل ولم ييأس من رحمة الله وفضله ونصره.
فما أحوجنا ونحن في زمن الهزائم والانكسارات أن نصنع الأمل، فربما كانت هذه المصائب باباً إلى خير مجهول، ورب محنة طيُّها منحة ؛ قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيرٌ لَكُم﴾ [البقرة: 216].
ولكي نتعلم صناعة الأمل علينا أن نعي الدرس من السابقين ، ونستقرئ تاريخ الأولين .
* فقد ضاقت مكة برسول الله r ومكرت به؛ فجعل الله نصره وتمكينه في المدينة.
* وتكالبت قبائل الردّة على أبي بكر رضي الله عنه، وظن الظانون أن الإسلام زائل، فإذا به يمتد ليعم أرجاء الأرض.
* وهاجت الفتن في الأمة بعد قتل عثمان رضي الله عنه ، حتى قيل: لا قرار لها ، ثم عادت المياه إلى مجراها ، وتوالت الفتوحات حتى وصل بنو عثمان قلب أوروبا.
* وأطبق التتار خناقهم على أمة الإسلام حتى أبادوا حاضرتها بغداد، وقتلوا ما لا يحصى من أمة الإسلام، حتى قيل: ذهب ربح الإسلام، فكرَّ الله على أعدائه في عين جالوت، وعاد للأمة مجدها.
* وتمالأ الصليبيون وجيَّشوا جيوشهم ، وخاضت خيولهم في دماء المسلمين ، حتى إذا استيأس النفوس الضعيفة ، نهض صلاح الدين وأعاد للأمة عزها ومجدها وحرر أقصاها.
وهكذا نتعلم دروس صناعة الأمل ، وأن الشدة يعقبها الفرج ، ويتبع الهزيمة النصر؛ فلا مكان لليأس في نفوس المؤمنين الواثقين بربهم ، وصدق نبيهم ؛ لأن الله تعالى يقول : ﴿وَلا تَيأَسُوا مِن رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَوحِ الله إِلاَّ القَومُ الكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].
بقلـم /
د. أيمن محمد العمر
الباحث في إدارة الإفتاء