إدارة الإفتاء

وهبَّت نسائم الرحمات


وهبَّت نسائم الرحمات

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد وعلى آله الأطهار الأبرار، وصحبه الأخيار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعـــــد:

ما أسرع مرور الأيام، تجر خلفها الشهور، تتبعها السنوات، وهكذا ينقضي عمر الإنسان، لكن شتان ثم شتان بين عمر أُنفق في الجد والاجتهاد، والبر والإحسان، واستباق الخيرات، والتعرض للنفحات، وبين عمر ضُيع في اللهو والهذيان، والغفلة والنسيان، والإعراض والاستكبار، واتباع الهوى، وسلوك سبيل الرّدى، هذا موفق مسدد موصول، وذاك مخذول محروم مقطوع، ولله في خلقه شؤون وأسرار، وحكم وأحوال، يعلمها سبحانه وهو الكبير المتعال.

ولقد كان من رحمة الله بخلقه، ولطفه بعباده، أن جعل لهم مواسم للخيرات، ومواقيت لنزول البركات؛ يكثر فيه خير الله وفضله، ورحمته وكرمه ومنّه، وينادى فيها المنادى: يا باغي الخيرات هلم إلى الرحمات.

  فيا فوز من تعرض للنفحات، وأصابته تلك الرحمات، لقد لحق بركب السعداء، وصار في حزب الأصفياء، ويا خيبة وتعاسة من أعرض عن هذه  النفحات، وحرم من تلك الرحمات، لقد اختار لنفسه السير في قافلة التعساء، وحزب الفشلة والبلهاء، والموفق من وفقه الكريم المنان.

وها نحن في هذه الأيام المباركة نستقبل نفحة من أعظم هذه النفحات، وموسماً من أجلّ مواسم الخيرات، وزمناً من أبرك أزمنة الطاعات، إنه رمضان، وما أدراك ما رمضان؟ زين الشهور، وبدر البدور. إنه درّة الخاشعين، ومعراج التالين، وحبيب العابدين، وأنيس الذاكرين، وفرصة التائبين. إنه مدرج أولياء الله الصالحين إلى رب العالمين.

 إنه رمضان، وما أدراك ما رمضان؟ فتح لأبواب الجنان، وغلق لأبواب النيران، وتصفيد لمردة الجن والشيطان. إنه رمضان حيث الصيام والقيام وقراءة القرآن، إنه رمضان حيث المغفرة والرحمة والعتق من النيران، فأكرم به من شهر فضيل، وأنعم  به من ضيف عزيز. لذلك كان النبي يبشر أصحابه بقدوم رمضان، كما روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r يُبشّر أصحابه: (قد جاءكم رَمضانُ، شهرٌ مباركٌ، افترضَ اللهُ عليكم صيامَهُ، تُفتحُ فيه أبوابُ الجَنَّةِ، وتُغلقُ فيه أبوابُ الجَحيمِ، وتُُّغل فيه الشّياطينُ، فيه ليلةٌ خير من ألفِ شهرٍ، من حُرمَ خَيرها فقد حُرمَ).ٌ

يقول ابن رجب رحمه الله معلقاً: (( هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان))، ثم قال رحمه الله: (( كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر العاقل بوقت يُغلّ فيه الشيطان، من أين يشبه هذا الزمان زمان)) لطائف المعارف (158).

وصدق ابن رجب رحمه الله؛ فمن أين يشبه هذا الزمان زمان؟! ولذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يدركون هذا المعنى تمام الإدراك؛ يقول معلّى بن الفضل رحمه الله: (( كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم)).

ويقول يحيى بن أبي كثير رحمه الله: (( كان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان، وسلّم لي رمضان، وتسلمه مني متقبّلاً)). لطائف المعارف (158).

إن بلوغ رمضان نعمة عظيمة، ومنَّة جليلة لمن يعرف قدرها؛ روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن طلحة بين عبيد الله t (( أَنَّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ r وَكَانَ إِسْلامُهُمَا جَمِيعًا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْ صَاحِبِهِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا وَقَدْ خَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الجَنَّةِ، فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَيَّ فَقَالا لِي: ارْجِعْ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ r فَقَالَ: مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا كَانَ أَشَدَّ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدَخَلَ هَذَا الْجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً ؟ قَالُوا: بَلَى.  قال:  وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَهُ ؟ قَالُوا: بَلَى. قال : وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا سَجْدَةً فِي السَّنَةِ ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)).

إن رمضان نفحة إلهية ومنحة ربانية، تفضَّل عليها بها ربّ البريّة؛ فرمضان خيرك له، بركة كله، رحمة كله، ولله في كل ليلة منه عتقاء من النار، ولا يحرم من كل ذلك إلا محروم مخذول؛ روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة t: ((أنّ النّبيّ r صَعدَ المِنبرَ، فقالَ: آمينَ آمينَ آمينَ. قيلَ: يا رسولَ الله؛ إنَّكَ حِينَ صَعِدتَ المِنْبَرَ قُلتَ: آمينَ آمينَ آمينَ، قالَ: إنَّ جِبريلَ أتاني فقالَ: مَنْ أدركَ شهرَ رمضانَ ولم يُغْفَرْ له فَدَخَلَ النّارَ فأبعدَهُ اللهُ، قُلْ: آمينَ، فقلتُ: آمينَ. وَمَنْ أدركَ أبويه أو أحدَهُما فلمْ يَبَرّهُما، فَماتَ فَدخلَ النَّارَ فأبعدَهُ اللهُ، قُلْ: آمينَ، فقلتُ: آمينَ، ومَنْ ذُكرتَ عِندَهُ فلم يُصَلِّ عليكَ فَماتَ فَدَخلَ النَّارَ فأبعدَهُ اللهُ، قُلْ: آمينَ، فقلتُ: آمينَ)).

يقول قتادة رحمه الله: (( كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما سواه)) لطائف المعارف (232).

ولعل السبب في ذلك ما قاله ابن رجب رحمه الله، حيث قال: (( فلما كثرت أسباب المغفرة، كان الذي تفوته المغفرة فيه محروماً غاية الحرمان)) لطائف المعارف (232).

إذاً رمضان فرصة عظيمة، ومنحة جليلة، وعرض خاص للرجوع إلى الله واستدراك ما فات، فمن لم يتب إلى الله في رمضان فمتى يتوب؟! ولم يرجع إلى الله في رمضان فمتى يفعل؟! ومن لم يربح في هذا الشهر الفضيل فمتى يربح؟!

فيا من طالت غيبته عن مولاه، قد قربت أيام المصالحة، ويا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الفلاح أسرع، ويا باغي الشر أقصر.

 

                           أتـى رمضــان مزرعــة العبـــاد   ...    لتطهير القلوب من الفساد

                           فــــأدّ حقــوقــه قــولا و فعــلا   ...    وزادك فاتخـــذه للمعــــــاد

                        فمن زرع الحبوب ومــا سقاهـا   ...    تأوه نادمــا يــوم الحصـــاد

 

فاللهم سلمنا إلى رمضان، وسلّم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلاً. اللهم وفقنا لصيامه وقيامه على الوجه الذي تحبه وترضى به عنا، واجعلنا فيه من عتقائك من النار ومن المقبولين؛ إنك سبحانك ولى ذلك ومولاه، وصلى اللهم وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

بقلم/

أحمد عبد الوهاب سالم

الباحث بإدارة الإفتاء

 

وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - دولة الكويت - إدارة الإفتاء